ويمكن أن يقال لهم جوابات أخرى، غير أن الاشتغال بمثل هذا لا فائدة فيه؛ لأن هذه الشبهات من الضعف بالمكان الواضح.
لا نرى هذا الرأي الذي تفضلتم بذكره.
لسنا بمنكري الحكمة والفصاحة حتى نجيبهم بمثل هذا الجواب الضعيف.
والاشتغال بتدبر الآيات وتفسيرها على وجه مناسب، كيف لا تكون فيه فائدة؟؟
بل نقول أولا: المناسبة في آيات القرآن باب عظيم الأقدار مبهر للعقول والأفكار! لكنكم أخطأتم الظن - يا منكري النسخ وبئس الظن ظنكم - حيث زعمتم أن ذكر القدرة في هذه الآية غير مناسب. ثم جعلتم هذا الخطأ حجة على زعمكم الأول في إنكار النسخ، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، والعياذ بالله من الهوان.
ثانيا: في الآية قوله تعالى: (أو ننسها)، ومناسبة ذكر القدرة الإلهية عندها لا ينكره عاقل، فضلا عن مسلم. وفيها أيضا قوله تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها)، ومناسبة ذكر القدرة الإلهية عندها واضح، حيث أثبت أن الله قادر على معرفة الصلاح والأصلح في الأحكام لعباده فينزل ما يناسب ذلك بحسب الزمان والأحوال. قال ابن كثير رحمه الله على ما في المختصر: ((أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال ابن عباس: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم.)).
ثالثا: إن ذكر القدرة الإلهية والملك الإلهي لا يختص بالأشياء الكونية دون الشرعية الدينية - وهذا أمر لطيف جدا ينبغي معرفته والتعمق في دراسته! بل كثيرا ما ذكر الله تعالى قدرته الشاملة للإيذان - والله أعلم - بأنه هو المتصرف وحدة في أمور خلقه تقديرا وتدبيرا، فله الخلق وحده والأمر وحده جل جلاله. فالله تعالى قدير على كل شيء. . قدير على التصرف في الأمور الكونية الخلقية، وقدير على التصرف في الأمور الشرعية الدينية - فينسخ الآية والحكم ويبدلها أو ينسئها ويؤخرها كما يشاء عزّ وجلّ على مقتضى حكمته ورحمته سبحانه. . لا يغلبه فيهما غالب، بل الله غالب على أمره لا يُرد قضائه الكونية والشرعية والجزائية. {واللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ}.
رابعا: قال ابن كثير رحمه الله على ما في المختصر: ((وقوله: {ألم تعلم أن اللّه على كل شيء قدير* ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر، وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء، ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} ويختبر عباده بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنها اللّه في دعوى إستحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه اللّه: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملء السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند اللّه بتغيير ما غيَّر اللّه من حكم التوراة، فأخبرهم اللّه أن له ملك السماوات وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه)).
خامسا: الأحكام الشرعية يستلزم الأحكام الجزائية. ولهذا المجموع، ناسب جدا أن تذكر عنده القدرة الإلهية الشاملة. فالمطيع للأحكام الشرعية، يقدر الله تعالى أن يسعده بقدرته وحكمته؛ والعاصي لأوامر اللهه الشرعية، يقدر الله أن يعذبه بعدله وعزته. قال تعالى في القرآن الكريم:
- {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير}، وهذا في تشريع القبلة مع الإشارة إلى الحساب والجزاء - والله أعلم.
- وقال تعالى: {يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ان تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير}، وهذا في طاعة الأمر على لسان رسل الله تعالى وعصيانه، مع الإشارة إلى عواقب ذلك.
- وقال تعالى: {الم تعلم ان الله له ملك السماوات والارض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير}، وهذا في الأحكام الجزائية المتضمن للأحكام الشرعية.
- وقال تعالى: {واعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم امنتم بالله وما انزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير}، وهذا واضح أنه في الأحكام الشرعية مع الأحكام الجزائية الكونية.
- وقال تعالى: {الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير}، وهذا أيضا فيهما.
- وقال تعالى: {ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره ان الله على كل شيء قدير}، وهذا أيضا واضح جدا.
هذا، والله تعالى أعلى وأعلم.
¥