عبد البر، وكتاب الإمام أبي بكر ابن العربي، بحكم أنها من الكتب قليلة التداول، فلن يُعذروا بعدم معرفة رسالة القيرواني، وما جرى عليها من شروح كثيرة، ولن يعذروا كذلك بعدم معرفة مختصر خليل وشروحه المتعددة، والتي من أميزها عندهم شرح الشيخ عليش المصري؛ لأنهم كانوا لا يعترفون بأن العالم قد جمع، وجود، وحذق، إلا بعد أن يختم رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل على شيخ ماهر مجود، وما أدري ما السبب في تساهلهم في كثير من المسائل، إذ لا أجد مسوغاً لما هم فيه إلا أنهم أصبحوا يتعاملون مع أمور دينهم بحكم العادة السائرة، والعاطفة البريئة، التي لا ترفع الأحكام الشرعية كما هو معلوم؟ بل فوق كل ذلك أصبحوا يرمون بالغُلُو والتشَدُّد كلَّ من يأمرهم بالصرامة والحزم في التزام أوامر الشرع، وإن كان الآمِرُ ممن تابَعَ الإمام مالكَ بنَ أنس رحمه الله.
وأعجب من بعض من اتصف بحمل العلم الشرعي في عصرنا هذا ممن يهاجم المتمسك بالقول بعدم جواز مصافحة النساء، فيتهمه بعدم الانضباط، ويهزأ بمثل هذا التمسك بحجة أن من يجد لذة في المصافحة إنما هو من محترفي الرذيلة، وما أظن الحيف يلزمني إن قلتُ: إننا في عهد أصبحت فيه أرفف الكتب من متاع البيوت وزينتها!
وإن أعجب من المعاصرين فلن ينقضي عجبي من السابقين حينما أطالع سيرة الشيخ حمد بن محمد بن علي المشيخي - المشهور بحمد ولد أم مريوم، في طبقات ود ضيف الله - الذي أطلق عليه أهل عصره: ((حمد المشاقق)) [17]، لا لشيء إلا لأنه أقنع شيخه ((الشيخ محمد أرباب العقائد [18])) بأن ينقل هذا العلم من دوائر الحلقات العلمية، إلى واقع الناس الْمُعاش، في أمورٍ كثيرة يفعلها الناس على خلاف توجيهات الشرع، منها المصافحة بين الرجال والنساء، والصلاة على جنائز الفسقة، والمجاهرين بالمعاصي، فأخذ الشيخ ((أرباب العقائد)) بنصيحة تلميذه الشيخ حمد، ورأى الناسُ في ذلك خروجاً على المألوف، فناشدوا الشيخ ترك العمل بما أمره به تلميذه ((حمد المشاقق))!!! هكذا نعته أهلُ زمانه في أواخر القرن الحادي عشر الهجري، أو بداية الثاني عشر.
وفوق ذلك فإن الشيخ حمد كان قد درس على الشيخ محمد أرباب العقائد؛ وهو شيخ أتقن علم الكلام، وبرع فيه حتى لقبوه ((أرباب العقائد))، فماذا يمكن أن يحدث مع الشيخ حمد لو طالَب شيخه بالنزوع عن التوسع في علم الكلام، والتزام منهج الإمام مالك بن أنس في مسائل العقائد؛ ليوافق حال أبي يزيد البسطامي [19] عندما قال: ((عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئاً أشدَّ علي من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لتعبتُ، واختلاف العلماء رحمة، إلا في تجريد التوحيد [20]))، لا شك أن أبا يزيد - وإن لم يُعرف عنه الالتزام بمذهب مالك - كان أكثرَ متابعة للإمام مالك بن أنس، وسلفِ الأمة الصالح في منهج العقيدة، من كثير من المنتسبين لمذهب إمام دار الهجرة النبوية، وهو منهج أوصد البابَ أمام المتوسعين في علم الكلام، وما أدري إن كان الشيخ محمد أرباب العقائد سيوافق تلميذَه على التوقف عن تدريس علم الكلام الذي اشتهر به وبز به أقرانه، ويعتمد في منهجه تدريسَ الفقه، وتقريره، على ضوء نصوصِ القرآن الكريم، والحديث الصحيح، متخلياً عما اشتهر به من رياسة في العقائد، أو أنه كان يقر العامة على إطلاق ذلك اللقب على العلامة البارع الشيخ حمد ولد أم مريوم رحمة الله على الجميع؟
وماذا يا تُرى كانت ستفعل بنت قسيوي لو أنها عاشت في هذا الزمان، وأبصرت مكتبةً حافلةً، على أرففٍ من الخشب النادر الثمين، في بيت أحد طلاب العلم، من تلك المكتبات الفخمة الضخمة، فلعلها تحذو حذو الشيخ حمد ولد أم مريوم، فتطالب باقتضاء العلم العمل.
ويا ليت شعري ماذا يقول سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لو عاش في هذا الزمان، ورأى الحيطان محجوبة بالأرفف الأنيقة المليئة بأضابير الكتب المرصوصة، بعد أن كان قد رفض دخول بيت عروسه الكِنْدية، في ليلة الزفاف، لما رأى الستور على الحيطان، فقال قوله المشهور: ((ما أدري أمحموم بيتكم؟ أم تحولت الكعبة في كِنْدة؟ والله لا أدخله حتى تُهتك أستاره، فلما هتكوها فلم يبق منها شيء دخل رضي الله عنه)) [21].
¥