وقد يجمح بي الخيالُ لوصف قرية العشيرة، وروعة جمالها بتناغم تلك الأصوات العذبة التي تصدر عن تمازج أصوات الطُّلى، والسُّخْلان، وصغار العجول، وتجاوب أمهاتها عند فصلها والتفريق بينها وبين صغارها في الغدو والآصال، من يُعارٍ، وثُغاءٍ، وخُوارٍ، وذكر ما يجده الناس في ذلك الجمال حين يريحون وحين يسرحون، فيحملني ذلك على التجاوب مع أبياتٍ من الشعر الرصين قالها الشاعر السوداني عبد الله محمد عمر البنا - رحمه الله - في وصف البادية:

رعى الرحمنُ أهلَكِ ما أقاموا وما رَحَلوا وحيَّاكِ الغمامُ

ولا زالت عِهادُ المُزْنِ تهْمِي عليكِ وحولُها هَطِلٌ سِجَامُ

رياضُ اللهِ بسّطَها فكانتْ دليلَ وجودِه وله الدَّوامُ

تأنَّقَ زهرُها فيها نِثاراً تألفَ من جواهِرِه نِظامُ

تناثرتِ الظباءُ على ثراها وراتِعُها مع الإنسِ السَّوامُ

إذا ضجَّ البِهامُ بها عشاءً أجابَ من الطُّلى فيها بُغامُ

وإن غنتْ جواريها ابتهاجاً شدا بجوانبِ الأيكِ الحمامُ

وكلُ خريدةٍ في الحي ليلى لها قيسٌ يؤرقُه الْهُيامُ

حلالٌ وصلُه عفٌّ هواه حرامٌ أنْ يدنِّسُه حرامُ

رفاقُ الضّيفِ أنى حلَّ هبوا لهم للضَّيفِ ضَمٌّ والتزامُ

إذا نحروا العِشَارَ مُعطَّلاتٍ فلا مَنٌّ بذاكَ ولا كلامُ

ومن يذُقْ هذا الجمال فلا بد أن يسخر مما نشاهده اليوم من تطور حضاري مزعوم؛ يراد به اغتيالُ الفضيلة، وإشاعةُ الرذيلة في فلذات أكبادنا عبر تجاوبهم مع أنغامٍ خليعةٍ، وصورٍ فاضحةٍ، يكاد يدهش من خلاعتها لاَقِيسُ بنُ إبليس، فيذاكر مع أبيه سير الخطة القَرْنِية لإغواء بني آدم، وما وصل إليه الناسُ من فسادٍ في هذا الزمن، فيبادلُه أبوه الدهشةَ والعجب، حتى يخيل إليهما من ذلك العُهر الذي بلغ الدرَْك الأسفل من الخلاعة والفساد، أنه فوق ما كانا يطمحان إليه، مهما أجلبا على الناس بالخيل والرَّجِل، ومهما توثقت المشاركة لهم في الأموال والأولاد، فأضحى إبليسُ مسروراً من نباهة جنوده، وأعوانه؛ من الإنس الذين بزوا رفاقهم من الجِنَّة أجمعين، وتقَرُّ عينُه فرحاً بما حصل، فيعمل على تثبيت هذه الغواية وإحكامها حتى لا ينفلت من وقع منهم في الشباك، ثم بعد الاطمئنان على التثبيت يصدر أوامره بتنفيذ الخطة القرنية القادمة لعصر ما بعد العولمة.

ولن يفوتني أن أرسُم مشهد استقبال بنت قسيوي في ديار العشيرة، وما وجدته من حفاوة وتَرْحاب، فأصورها وقد أرخت الثوب على جبهتها، واتخذت منه بُلاًّمة [11] أسفل عيونها حتى لا يُرى من وجهها سوى العينين، وهو ما كانت تفعله أمهاتُنا وجداتُنا في حال خروجهن، وتمسكت به الفضليات من نساء هذا العصر، أم إنها سفرت عن وجهها كما تفعل كثيرٌ من نساء هذا الزمان، اللائي يجهل أغلبهن كيف تُتخذ البُلَّامة، ولا يعرفها منهن إلا القليل القليل. وهل اكتفت بنت قسيوي بإلقاء التحية والسلام عن بعد على غير محارمها، بعد أن صافحت من صافحت، والتزمت من المحارم من تشاء، أم إنها لم تفرق بين محرم وغيره فيما فعلت من مصافحة والتزام، وتعبير عن شوق وحنان بريء لا يخالطه سوء قصد، بحكم ما اعتاده الناس في لقاءاتهم الأُسرية ببراءة لا تخفى على ذي لبٍّ، وهل تكون هذه البراءة معبراً للظن بتسامح الشرع في ذلك، أو أن الشرع يطلب من الناس خلافَ ذلك. وما أدري إن كانت بنت قسيوي ممن يعلم ذلك، أو أنها كانت تتعامل بتلك العفوية التي رسَخت في أذهان الناس - من العامة وكثير من العلماء على حد سواء - حتى أضحى كثيرٌ من العقلاء يظن أن الشرع لم يضيق على الناس في أمر المصافحة بين الرجال والنساء، وأن من يأمرون بالتخلي عنها، والقول بحرمتها إنما يفعلون ذلك من دافع الغُلُو والتشَدُّد.

وما أدري إن كان يعلم الحذاق من طلبة العلم - في ديارنا - أن ابن أبي زيد القيرواني - في كتاب الرسالة [12]، وأبا عمر ابن عبد البر - في التمهيد [13]، وفي الاستذكار [14]، وأبا بكر ابن العربي - في أحكام القرآن [15]، والشيخ عليش - في منح الجليل في شرح مختصر خليل [16]؛ وجميعهم من كبار علماء مذهب الإمام مالك - قرروا حرمة المصافحة بين الرجال والنساء، بعد أن تعبوا - رحمة الله عليهم - في الغوص في معاني التوجيه الشرعي في هذا الصدد، وقد علمت في أهلي تمسكهم بمذهب الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه -، فإن كانوا معذورين بعدم مدارسة كتابي الحافظ ابن

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015