حبلى قاربت المخاض.

ولن يفوتني أن أقف عند قسمها بلعنة أبيها إن هي استجابت لطلب الجنِّيَّة في المرة الثالثة، لأستكشف مبلغ علمها بحدود الشرع، ومدى إدراكها لما وقعت فيه من مخالفة تحاسب عليها يوم تفرُ من أخيها وأمها وأبيها؟ أم إنها تتكئ على دليلٍ تعسَّف المحتجُّ به فلواه عن مقصده؛ لأنه لا يصلح للاحتجاج، ولا تقوم به حجة على جواز القسم بغير الله، أم إنها لا شأن لها بكل ذلك، وأن قولها هذا تقليدٌ لما اعتاده الناس، ولم ينكره أهل العلم فيهم؟

كما سأعرض لصلاة الصبح، وهل أدتها بوضوء، أو أنها تيممت صعيداً طيباً؟ أو أنها لم تأبه بهذه الصلاة العظيمة، وما فيها من الفوائد الجسيمة، إذ لا علم لها بأحكام الصلاة، والسفر، ولا بالاستعاذة، والقسم، وهل يصلح أن أتبين - بكونها على أي من تلك الأحوال - الواقعَ التعليمي في مجتمعات المسلمين في الماضي القريب، وما سبقه من قرونٍ خلت، وما عَلاقة ذلك كله بما نعانيه في عهدنا الحاضر، الذي ورث أهلُ العلمِ فيه عبئاً ثقيلاً، وكثيباً مَهِيلاً من التراكمات المظلمة، فامتد هذا الضعفُ فينا ليكون أحد أهم أسباب ما تعانيه الأمةُ اليوم من وهْنٍ وبُعد عن الصراطِ المستقيم، وهل إلى نهوضٍ من سبيل؟ أم أننا أصبحنا في عهد يقول العاقل فيه: علَيَّ بخاصة نفسي، فقد رأيتُهم يتبعون الأهواء، ويطيعون الشُّح، ويعجبون بآرائهم، فما لي عليهم من سلطان، وما دَرَى هذا القائلُ أن مثله مثل راكبِ سفينةٍ جمعت بين عقلاءَ في أعلاها، وسفهاءَ في أسفلها، فلو سكت العقلاءُ عن جهل السفهاءِ وعن قولهم: ((لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا)) لهلكوا جميعاً، ولو أخذوا بأيديهم فأرشدوهم للصواب لنجوا، ونجوا جميعاً.

ولعلي أسبح في بحر الخيال لأذهب إلى أن بنت قسيوي قد عانت الأمرَّين من الأرق في تلك الليلة، فاجترَّت من الذكريات أتراحاً وأفراحاً، فظلت حزينةً تارةً، ومسرورةً تارةً أخرى، فتمثلت لها الدنيا بأسرها في تلك الليلة، وذلك في الجمع بين النقيضين - لو أنها كانت في العَالِمِين - وقد أتخيلُها باتت في سُباتٍ عميق تخطت به عالم الرؤى والأحلام؛ في برزخٍ بين الحركة والسكون، في ذلك المكان الموحش، حتى تبين لها الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر، ثم لبثت في مكانها حتى أسفر صبحُها، ولاح لناظريها قُرصُ الشمس، فرأت ديار الأهل والعشيرة في الأفق البعيد، كأنياب الكلاب.

وقد أنساقُ مع الخيال لعقد موازنة بين ذلك الواقع، وبين واقعنا الحالي الذي أمكن أن تُقطع فيه الفيافي، وتعبر فيه البحار في سُوَيْعات، وأن تنجز فيه عظائم الأمور بالكلام عبر أجهزة الاتصال الأثيري التي تجاوزت توقعات الشيخ فرح ولد تكتوك البَطْحاني [10] الذي قال، أو تُقُوِّل عليه: ((سيكون السفرُ في آخر الزمان بالبيوت، والكلامُ بالخيوط)) في إشارة إلى السيارات، والقطارات، وإلى مراكب جو السماء المروحية، والنفاثة، وذات المحركات المتعددة، التي يرخي راكبها جفونه من عل ليرى السحاب من تحته، كما أن الخيوط تشير إلى الاتصال عبر الهاتف السلكي، إلا أن واقع التطور المادي في عصرنا الحاضر قد تخطى الكلام المنسوب إلى الشيح فرح بلا شك، فقد ظهرت الهواتف اللاسلكية التي أتت بعد طَفَرات متتالية في عالم الاتصال الذي ارتقى من الارتباط السلكي إلى النُّقلة المدهشة عبر الوسائط الضوئية، بحكم التطور العجيب في عالم الإلكترون، الذي صار لا يخطو اليوم خطوة في رحاب الكشف التقني إلا ويخطو في قابلٍ قريبٍ عشرَ خطواتٍ مثلها أو أكثر، وما على بنت قسيوي إن كانت حاضرة في زماننا هذا إلا أن تضرب على مفاتيح أرقام الهاتف المحمول - الذي انفك ارتباطه بالأسلاك - ليعلم أهلُها بما هي فيه، ولعلها تشك - لو عاشت في زماننا هذا - في صحة نسبة القول المتقدم آنفاً إلى الشيخ فرح، وتدرك أن كثيراً مما نُسب إليه من أقوال لا تصح عنه، ولعلها تصل بهذا المستوى من الإدراك لمرحلة الوعي والنقد، وتتوصل بذلك إلى سلامة في التوجه والاتباع، وقوة في الدين واليقين، وتدرك أن العمل على تمييز الكذب من الصدق في الرواية والقصة والأقوال كافة مطلبٌ مهمٌ جداً.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015