تَسْمَع للحَلْيِ وَسْواساً إِذا انْصَرَفَتْ = كما استعان بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ

أو أنها لا تملك من الزينة الخفية شيئاً؟ أو أن انشغالها بما أتاها من خبر أهلها شغلها حتى عن الزينة الظاهرة، فخرجت في مِبْذلٍ رث [6].

وقد أذكر من أي أنواع المراكب امتطت في رحلتها، فأقول: إنها اتخذت حماراً، أو أتانا، أو ما سوى ذلك مما هو في مبلغ علم الناس من المراكب الأرضية في ذلك الزمان، فيسيل المداد في وصف تلك الدابة، وما يمكن أن تكون فعلته بطلةُ القصة، أو أحدٌ من أولادها، أو أحفادها، أو أقربائها من تهيئتها بالسرج، والبرذعة، والمخلاة، وما تحويه من عُلْقة للدابة، وبالشَّنَّة وما تحمله من ماء الشرب، ثم أذهب إلى أن زوجها كان ميتاً، أو مريضاً، أو مسافراً، أو مشغولاً، أو أنها من المطلقات، وأن أولادها في شغلٍ بأنعامهم يسرحون، أو أنهم في حائشهم [7] يكدحون، مما جعلها تستصحبُ حفيدها الصغير، وتردفه من خلفها، وتضع له وقاية، أو تقاسمه البرذعة، لئلا يتأذى من ظهرٍ عَرِيٍّ، ثم أُمعنُ في التحزين، أو التشويق بذكر السبب الذي دعاها للسير إلى عشيرتها؛ استمالةً لألباب القراء. ولن يفوتني أن أذكر أين صلَّت تلك المرأةُ صلاتَيِ الظهر والعصر؟ ثم هل بدأت سيرها بعد الظهر أم قبله؟

ثم أميل لذكر ما تتصف به تلك الدابة من جد في السير، فأذكر أنها كادت تباري الرياح المرسلة، أو أنها تمشي الْهُوَيْنا من ضعفٍ أو هزالٍ أو عيبٍ فيها، وما يتخلل سيرَها من محاولاتها لالتهام ما نبت على وجه الأرض من النجم الساجد، أو من أغصان الشجر الهاجد، وما تفعله معها البطلة عندئذ؟

وبعد ذلك أعرِّج على التفَكُّر في فقه تلك المرأة والتزامها بالأوامر الشرعية، فأذهب إلى أنها جمعت بين المغرب والعشاء، وربما أذهب إلى أنها قد استعاذت بالله وكلماته التامات من كل شيطانٍ وهامة، ومن كل عين لامَّة، عندما آذن النهار بالإدبار، وأقبل الليل يُرخي سُدولَه على الرُّبا، فكان سبباً قوياً في تحصينها من الجن.

وقد يسرح قلمي في ذكر تلك الليلة ووصفها، فأذكر أين كان منزل القمر فيها؟ فهل هو بدرُ تمٍّ خَبَتْ في ضيائه أنجمُ الدُّجى، أو أنه عاد كالعرجون القديم، ففرحت بانزوائه زُهرُ النجوم؟ أو أن ضياءه قد حجبته جبالُ البَرَد المتراكبة، التي أَنَّتْ من حِملٍ ثقيلٍ غالبته الرياحُ، فساقته - بأمر ربها - إلى تلك الأصقاع لتحييها بعد موتها، فغازلت في ثِقَلِها يباباً عذراء، فهشت وبشت وضحكت من حبات المطر، وظنت أن السماء قد بكت شوقاً إليها، وحنيناً لأيامٍ كانتا فيها رتقاً قبل أن يفتقهما الله عز وجل، فاهتزت تلك البكر، ورَبَتْ، وتزينت، وتعطرت برائحة الأراك الذاكية، فرحاً وحبوراً بوصل وابلٍ صيبٍ، جعله اللهُ من أقوى أسباب الحياة؟ فلعل بنت قسيوي كانت قد احتاطت لذلك، فأحضرت معها فروةً تقيها البلل والبَرْد، وتزودت طعاما لاحتمال البَيَات في القَوَى [8]، أو أنها لم تحتط لذلك، ليقينها بمعرفة الدروب، فنامت على الطَوَى، وعانت من الشدة بأساً.

ولن يفوتني كذلك أن أذكر من أي قرية بدأت سيرها، وأيَّ قرية تريدُ، فأجتهد في تخمين اسم القريتين، وتقدير المسافة بينهما، وذكر ما بينهما من قرى وادعة وبنيان مشيد، وهل بلغت حد الرخصة بقصر الصلاة، فيلزم عند ذلك القولُ بأنها قد خالفت أوامرَ الشرع بسبب سفرها من غير محرم، أو أن المسافة مع طولها لم تبلغ الحد الذي يلزم معه استصحابُ محرم يلازمها في سفرها ذلك.

ولن يضيق الخيالُ عن القول بأنها ترجَّلت عن دابتها وصَعِدت قوزاً [9] كان بجانب الدرب، عسى أن تأنس على البعد ناراً، أو وبيصاً من كوةٍ أو بابٍ، أو جذوةً تبادلها الجيرانُ والأصحاب، أو تسمع أصواتَ الكلاب، فتهتدي إلى حيث تريد، فلما لم تر ولم تسمع من ذلك شيئاً - برغم إمعانِها النظرَ، وإرعائِها السمعَ - يئست من بلاغ منشود، واتخذت في رَهْوٍ بين أشجار الأراك نُزُلا، فناشدتها الجنيةُ أن تتحرك لكونها قد جلست عليها وهي حامل في الشهر التاسع، وقد ربَطت على بطنها الحزامَ عوناً على حملها الثقيل، وتقول الجنية كل ذلك زُوراً وتلفيقاً من أجل ترويع بنت قسيوي التي استعاذت بالله العلي العظيم، ولم تستعذ بسيد الجن في ذلك الوادي كما كان يفعلُ أهلُ الجاهلية، ولعل الفكر يذهب إلى أن المتحدث كان من ذكور الجن، فقَلَّد صوت

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015