ثم أورد الشيخ الطنطاوي عقب هذه مباشرة قصة أخرى قال فيها: ((وكتبتُ مرةً قصصاً متخيلةً، عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: ((أعرابي في الحمَّام))، ((أعرابي في سينما))، ((أعرابي ونقد الشعر))، وكلُها في كتابي ((صورٌ وخواطر))، قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها السوالم لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن، ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً مني، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي، فوضعه في بحثٍ له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية [3])).اهـ.
والشيخ علي الطنطاوي من المعروفين بالورع والتقوى، والدعوة إلى الله على بصيرة، ولا شك أنه قد فعل ذلك في بدايات عمره بسلامة صدر، ولو كان يعلم أن قَصَصَه سيُفهم منه أنه قَصَصٌ واقعيٌ لما أقدم على ذلك. إذ أن ذلك سيحسب عليه، ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لما وقع في مثل هذا، لأنه أمرٌ له خُطُورتُه عند أهلِ العلم بالحديث وغيرِهم ممن يتوخون الصدق في القول والنقل، وهذا ما علمه الشيخ بعد أن تقدمت سنه، ولعل ما ورد في كتاب الذكريات اعتذار منه عن هذا التصرف.
على أنني وجدت في المنهج التحليلي للفقهاء من أهل الحديث، ما يمكن استخدامه في تحليل النص الأدبي، وهو كابحٌ قوي لجموح الخيال، وانسياقه وراء السَّرَاب، ومخرجٌ جيدٌ لأرباب البيان، ليُعْمِلوا فكرهم دون أن يقعوا في مزالق الكذب. وقد سلكت هذا المسلك لأضع القارئ الكريم أمام صور مختلفة يمكن أن تكون إحداها مطابقةً لواقعِ الحياة الإنسانية، في عصر من العصور القريبة الماضية. لألفت نظر القارئ الكريم للفرق بين منهج المحدثين، وحرصهم البالغ على تحرى الصدق في نقل الرواية، وسعة أفق الفقهاء منهم ومقدرتهم على التحليل من ناحية، وبين منهج القُصَّاص من أهل البيان والأدب العربي، الذين قد تنخرم عند كثير منهم قاعدةُ الالتزام بالصدق، وتحري الدقة، من ناحية أخرى.
فبدأت أول ما بدأت - إمعاناً في التحقق من واقعية هذه القصة بعد وفاة أمي - رحمها الله - بسؤال إحدى خالاتي - أطال الله عمرها في طاعته - عن بطلة القصة، فأكَّدت لي أنها معروفة، وذكرت بأن لنا بها صلةً، وأنها من جيل جداتِها، ولم تكن أمي قد ذكرتْ من القصة إلا ما ذكرتُ. ولم تكترث للتفاصيل الدقيقة لسير المرأة، وأسباب سفرها، وأين كانت تقْطُن، وهل كانت وقتذاك شابة في النساء، أو هي بَرْزة مُتَجالَّة [4]، أو أنها كانت عجوزاً طحنتها رحى السنين، وهل كان لها زوج، وولد؟
وكذلك لم تكترث أمي لوصف هيئتها، ووصف دابتها، والطريق التي سلكت، وما سبب سفرها، وضلالها، ومتى وصلت لأهلها، وكيف كانت حفاوتهم بها؟ وفوق كل ذلك لم تهتم حتى بذكر اسمها، فلعلها لم تكن تعرفه، أو ربما لأنها اشتهرت بنسبتها إلى أبيها، فاختفى بذلك اسمُها، ولعل أمي لم يَعْنِها من هذه القصة إلا شجاعةُ تلك المرأة، إذْ قصَدت أن ترسخ هذه الفضيلةُ في ذهني منذ الصغر، خاصة وأنها قد وُجِدت في امرأة لا يُتوقع أن تصل لهذا المستوى من رباطة الجأش، فعساها كانت تأمُل أن ينال ابنُها من الشجاعة نصيباً.
وقد أثارت هذه القصةُ عجبي منذ ذلك الوقت وحتى كتابة هذه السطور، ولم يدر بخَلَدي يومئذ - وأنا صبي لا أعرف من شؤون التربية والتعليم والأدب ما يعرفه الكبار - أن مادتها يمكن أن تكون سبباً من أسباب النفع العلمي والتربوي، ولم تكن تهمني - آنذاك - تلك التفاصيلُ التي قد يحتاجها الرواة ذوو الأهداف، من الملتزمين بضوابط النقل والرواية.
فلما أدركتُ هذا قادني ذلك إلى الركون لتحليتها، وتزيينها بالبيان العذب، على منهج أرباب البيان، حتى كدت أتقوَّل رجماً بالغيب، فأضيف في المضمون ما يخالف المروي، فأتخيل من أي النساء كانت بنت قسيوي، فأقول: إنها كانت امرأة متجالة، وإن لها من البنين والبنات كذا، وكذا.
ثم أحاول أن أرسُم الهيئة التي خرجت بها من ديارها، وكيف كانت ترتدي الثوب، ومن تحته القرقاب [5]، ومدى توافق هيئتها مع ما أمر الله به نساء المؤمنين من إدناء الجلابيب، وضرب الخُمر على الجيوب، وهل كانت تلبس من الزينة الخفية الحجول الفضية، أو العاجية، أو أنها جمعت بينها، وزادت على ذلك أسوِرةً ذهبية، وكأني بها تشبه مَن قال فيها الأعشى:
¥