ـ[وليد الدلبحي]ــــــــ[17 - Jun-2007, صباحاً 09:39]ـ
الرواية بين التجريد، والخيال
دراسة توفيقية بين منهج علماء الحديث، وأرباب البيان
امرأة في وادي الجن (قصة واقعية قصيرة جدا):
اضطُرَّت لزيارة أهلها لأمر هام بلَغَها، فتهيأت، وركبت، ثم ولَّت وجهها شطرَ ديار العشيرة، حتى إذا لفَّها الليلُ، وأيقنت أن قد ضلَّت، ضربت خباءَها على رَهْوٍ بين أشجار الأراك، في وادٍ لا أنيسَ به، بعد أن عجَزت عن الاهتداء بالنجم إلى حيث تريد.
وما كادت جفونُها تلتقي حتى ناداها من تحتها قائلٌ: ((لقد آذيتِني يا بنت قسيوي، فأنا حاملٌ منذ تسعة، وقد كُرِبَت النِّسْعة [1])). فلم ترتعب بنت قسيوي برغم أنها أدركت - وفي الوهلة الأولى - أن محدثها من الجن، فقامت وتركت ذلك الموضع إلى موضع آخر. وغيرَ بعيد وضعت متاعَها مرة أخرى، وفرشت وتهيأت للنوم، ولم تكد عيناها تغمضان حتى سمعت الكلمات نفسها من تحتها أيضا. فانتقلت مرة أخرى لمكان قريب.
ثم تكررت الكلمات في سمعها للمرة الثالثة، وعندها أقسمت بنت قسيوي بلعنة أبيها إن هي قامت من مكانها مرة أخرى قبل أن يبزغ الفجر، لتعلم أين هي من ديار العشيرة.
(انتهت)
الدراسة التوفيقية للقصة:
تلك قصةٌ سمعتها في الصغر من والدتي - رحمها الله - وهي قصة واقعية حدثت في منطقتنا [2]، قصَّتها عليَّ أمي الحبيبة بالعامية المحلية التي يضرب كثير من مفرداتها في عمق الكلام العربي الفصيح، بل يوجد في كثير من مفرداتها أيضاً ما هو من غريب الفصيح، الذي قد يُضطَرُّ بعضُ القراء للاستعانة بالمعاجم الرئيسة لمعرفة معناه، مثل جملة: ((وقد كربتُ النِّسْعة))، التي نطقتها أمي كأنها تقول: ((وقد شربتُ اللبن))، مما لا يجهله ناطقٌ بالعربية. بل لن أجازف إن قلتُ: إن كثيراً من المفردات العامية عندنا يدل تركيبها على أنها من غريب الفصيح، ولكن لم تسعفنا المعاجم بذكره، وسأدلِّل في هذا السياق، وأبرهن على قولي هذا في أكثرَ من موضع إن شاء الله.
وقد كان من مدعاة تفكيري في تدوين هذه القصة أن أستخدمها في تنمية مدارك النشء، وربطهم بتلك المفردات الموغلة في الفصاحة، والتي صار جيلُ اليوم لا يعرفُ منها إلا النزرَ اليسير، حتى إذا ما ألفوا التعاملَ مع اللغة العربية الفصحى، حملهم هذا الإلفُ على محبة أفصح الفصيح؛ القرآن العظيم، والحديث النبوي الصحيح، فيقودهم ذلك للتفقه في الدين الحنيف.
وقد صعب عليَّ جداً أن اعتمد في سردها منهج أرباب البيان من أهل العربية، ممن يركبون الخيال في صوغ وإنشاء القصص، لأن إطلاق العنان للقلم في مسارات الخيال لا تضمن معه السلامة من الكذب، خاصة وأن الخيال فرس جموح، وبحر طموح. ففضلت أن أنقل القصة كما سمعتها دون تزيُّدٍ، متبعاً في ذلك منهج علماء الحديث النبوي الشريف ممن يذهبون لقبول الرواية بالمعنى، مع الصرامة في التزام الدقة والصدق في النقل، مستخدماً الكلمات الفصيحة التي ذكرتها أمي، معرباً لبعض كلامها العامي الآخر، غير زائد في المضمون.
ويؤيد مذهبي هذا ما دونه الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - في مذكراته، إذ قال: ((ولي كتاب اسمه "قصصٌ من التاريخ" آخذُ فيه أسطُراً معدودةً، أو حادثةً محدودةً, فأُعمل فيها خيالي، وأجيل فيها قلمي، حتى أجعل منها قصة.
بدأت بهذا العمل من سنة 1930م، من حين كنت أشتغل في جريدة "فتى العرب"، والقصص الأولى منشورة في كتابٍ لي نفِد من دهرٍ طويلٍ كان اسمه "الهيثميات".
من هذه القصص ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسامَ المسلمين، وتقاعسَهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعمِلت ما تقدر عليه؛ قصَّت ضفائرَها، وبعثت بها إلى سِبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأموي في دمشق؛ ليكون منها قيدٌ لفرسٍ من خيول المجاهدين.
ويقول المؤرِّخون: إنه خطب خطبةً عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة، وأيقظت الهِمَم، فلما كتبتُ القصة على طريقتي، ألَّفتُ أنا خطبةً قلتُ: إنها التي ألقاها على الناس.
وحَسِبَ الناسُ أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبةُ سِبط ابن الجوزي)).اهـ.
¥