" من علق " و العلق اسم جمع واحدة علقة , و هي قطعة من الدم غليظة , كانت في الأربعين يوما الأولى في الرحم نطفة ثم تطورت إل علقة تعلق بجدار الرحم ثم تتطور في أربعين يوما مضغة لحم , ثم إما أن يؤذن بتخلقها فتخلق و إما لا فيطرحها الرحم قطعة لحم.

و تخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات , لاستقلاله ببدائع الصنع و التدبير و تفخيما لشأنه , إذ هو أشرفها و إليه التنزيل , و هو المأمور بالقراءة , قال الإمام: و من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا , و هو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية , و يسخرها لخدمته , يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبي صلى الله عليه و سلم قارئا , و إن لم يسبق له تعلم القراءة , و جاء بهذه الآية بعد سابقتها ليزيد المعنى تأكيدا , كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ: أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات , و ما القراءة إلا واحدة منها.

(إقرأ و ربك الأكرم) أي كثير الكرم و الإحسان , واسع الجود , الذي من كرمه أن علم بالعلم , قال الإمام: ... أن الله أكرم من كل من يرتجى منه الإعطاء , فيسير عليه أن يفيض عليك هذه النعمة , نعمة القراءة , من بحر كرمه , ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة , فوصف مانحها بأنه " الذي علّم بالقلم ".

(الذي علم بالقلم) أي أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان , و القلم آلة جامدة لا حياة فيها , و لا من شأنها في ذاتها الإفهام , فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم و البيان , ألا يجعل منك قارئا مبيّنا و تاليا معلما و أنت إنسان كامل؟؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه , و يبعد عنه استغراب أن يقرأ و لم يكن قارئا , فقال " علم الإنسان ما لم يعلم ".

(علم الإنسان ما لم يعلم) أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا و أوجد فيك ملكة القراءة و التلاوة , و سيبلغك فيها مبلغا لم يبلغه سواك , هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم , و كان في بدء خلقه لا يعلم شيئا , فهل يستغرب من هذا المعلّم الذي ابتدأ العلم للإنسان و لم يكن سبق له علم بالمرة , أن يعلمك القراءة و عندك كثير من العلوم سواها و نفسك مستعدة بها لقبول غيرها.

(كلاّ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) أي حقّا إن الإنسان ليتجاوز حدّه و يستكبر على ربه , غذا رأى نفسه قد استغنى بماله أو ولده أو سلطانه أو بالكلّ و ما أصبح في حاجة إلى غيره , فيتجاوز حدّ الآداب و العدل و الحق و العرف فيتكبر و يظلم و يمنع الحقوق و يحتقر الضعفاء و يسخر بغيره. و أبو جهل كان مضرب المثل في هذا الوصف وصف الطغيان حتى قيل إنه فرعون هذه الأمة.

كذلك دلالة هذا الكلام فيه ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم بالكفران و الطغيان , أي ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان ينعم عليه ربه بتسوية خلقه و تعليمه ما لم يكن يعلم و إنعامه بما لا كفء له , ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك و يطغى عليه أن رآه استغنى.

(إنّ إلى ربك الرّجعى) أي إلى الله المصير و المرجع في الآخرة , قال أبو سعود: تهديد للطاغي و تحذير له من عاقبة الطغيان.

(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) نزلت في أبي جهل , لعنه الله , توعد النبي صلى الله عليه و سلم على الصلاة عند البيت. روى البخاري عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه , فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم , فقال " لئن فعله لأخذته الملائكة ". و روى مسلم عن أبي هريرة , قال: قال أبو جهل: هل يُعَفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم. فقال: و اللاّت و العزّى! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته , أو لأعفّرنّ وجهه في التراب. قال فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلّي. زعم ليَذأ على رقبته. قال فما فَجِئَهم منه إلاّ و هو ينكص على عقبيه و يتّقي بيديه. قال فقيل له: مالك؟ فقال: إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هَوْلاً و أجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ".

(أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى)

" أرأيت إن كان " أي المصلي الذي نُهي عن الصلاة و هو الرسول نفسه صلى الله عليه و سلم

" على الهدى " على الطريق المستقيمة الموصلة إلى سعادة الدنيا و الآخرة و كرامتهما

" أو أمر بالتقوى " أي أمر غيره بما يتقي به عذاب الدنيا و الآخرة فهل يحسن أن ينهي من هذا وصفه؟ أليس نهيه من أعظم المحادّة لله و المحاربة للحق؟ فإن النهي لا يتوجه إلا لمن هو في نفسه على غير الهدى , أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى.

(أرأيت إن كذّب و تولى) أرأيت يا رسولنا إن كذب هذا الذي ينهى عبدا إذا صلى بالحق و الدين , و تولى عن الإيمان و الشرع , كيف يكون حاله يوم يلقى ربه؟

(ألم يعلم بأن الله يرى) أي: أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه و يسمع كلامه , و سيجازيه على فعله أتم الجزاء.

(كلاّ لئن لم ينته) أي: لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق و العناد.

(لنسفعا بالناصية) أي لنأخذنّ بناصيته , أخذا عنيفا و لنسحبنه بها إلى النار. و السفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة.

(ناصية كاذبة خاطئة) يعني: ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعلها.

(فليدع ناديه) أي قومه و عشيرته و أهل مجلسه و أصحابه ليدعهم يستنصربهم.

(سندع الزبانية) و هم ملائكة العذاب , حتى يعلم من يغلب: أحزبنا أو حزبه.

(كلا لاتطعه واسجد و اقترب)

" كلا لاتطعه " يا محمد , لاتطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة و كثرتها , و صلّ حيث شئت و لا تباله , فإن الله حافظك و ناصرك , و هو يعصمك من الناس.

" و اسجد واقترب " أي صل لربك و قرب منه بالعبادة و تحبب إليه بالطاعة فإنها تُدني من رضاه و تقرب منه. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد , فأكثروا الدعاء ".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015