ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[09 - عز وجلec-2006, مساء 07:54]ـ

التتمة:

# الراجح:

قبل التفصيل في ذلك، وبالنظر إلى مرجّحات كلِّ وجه وما يعكّر عليه؛ تظهر جليَّةً قوةُ الوجه الذي اختاره إمام الحديث وجهبذ العلل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله -، ووافقه عليه الأئمة الحفاظ أبو عبد الرحمن النسائي وأبو جعفر العقيلي وأبو الحسن الدارقطني - رحمهم الله جميعًا -، ومع أن البحث أخذ صفحاتٍ طويلة، ووقتًا، وكلامًا كثيرًا، إلا أنه في نهايته بيّن أن ما اختاره البخاري والنسائي والعقيلي والدارقطني - رحمهم الله - أقوى من غيره، مع أن اختيار البخاري والنسائي ما كان إلا تصرُّفًا منهما، ولم يكتبا في الحكم على الحديث حرفًا واحدًا. وهذا نموذجٌ من نماذج كثيرة تبيّن مدى قوة نظر الأئمة الحفاظ المتقدمين وفحصهم ودقتهم وسعة علمهم وفهمهم في علل الحديث وطرقها ومخارجها، وهذا يوجب احترام أحكامهم على الأحاديث وآرائهم وأقوالهم، لا كتصرف من ينسف كلَّ ذلك بجرّة قلمٍ غيرِ مسؤولة - وربما كانت غير مؤدبة! -، قال ابن حجر: «وبه يظهر نفوذ رأي البخاري وثقوب ذهنه ... »، ثم ذكر من خالف البخاري في ترجيحه هذا الوجه من الأئمة الكبار (كأبي زرعة والترمذي) = فحكم عليه بالمرجوحية، ثم قال: «ومع ذلك فتبين بالتنقيب والتتبع التام أن الصواب في الحكم له - أي: للبخاري - بالراجحية، فما ظنك بما يدعيه من هو دون هؤلاء الحفاظ النقاد من العلل، هل يسوغ أن يُقبل منهم في حق مثل هذا الإمام مُسَلَّمًا؟! كلا والله، والله الموفق» (هدي الساري، ص349، 350).

ثم إن الوجه الذي اختاره الحافظان الإمامان أبو زرعة الرازي وأبو عيسى الترمذي له قوة أيضًا، ولا يمكن إغفاله، ولعله لأجل ذلك توقف الدارمي في هذا الحديث، فلم يحكم فيه بشيء - كما نقل الترمذي عنه في السنن -، وذكر العيني في العمدة (2/ 302) أن ابن المديني توقف فيه أيضًا.

وفيما يلي تفصيل الراجح:

فأولاً: لعله يظهر من الوجه الثالث أنه لا يقوم أمام الوجهين الأولين، والظاهر أنه لا يثبت، لأن معمرًا ومن معه ليسوا من أصحاب أبي إسحاق، وأصحاب أبو إسحاق الكبار لم يرووا هذا الوجه عنه، فهو غريب عن أبي إسحاق، لا يثبت، ولذا استغربه البزار - رحمه الله -، ولم يرجحه أحدٌ من الأئمة أو يقويه. والظاهر - والله أعلم - أنه خطأٌ من اشتباه هذا الحديث بحديثٍ آخر، هو حديث ليلة الجن، إذ فيه نهيٌ عن الاستنجاء بالروث، وقد أخرجه مسلم في صحيحه (450) من طريق الشعبي وإبراهيم النخعي ومسروق عن علقمة عن ابن مسعود، فلعل هذا اشتبه على بعض الرواة، فظنوا حديثنا مرويًّا عن أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود أيضًا، والله أعلم.

وأما الوجه الأول، فجاء من رواية زهير وزكريا بن أبي زائدة ويوسف بن أبي إسحاق وشريك. وإن كان الأولان قد سمعا من أبي إسحاق بعد تغيره، فهما اثنان اتفقا على هذا الوجه، واتفاقهما يعطي روايتهما قوة، لا سيما أن الآخرَيْن لم يذكر عنهما تأخر سماعهما من أبي إسحاق، بل ذكر الأئمة أن سماع شريك من أبي إسحاق قديم، وقدموه على إسرائيل الذي فضلوه على كثير من الرواة عن أبي إسحاق، وهذا التقديم ينفي تأثير كون هذا الوجه مخالفًا لرواية إسرائيل، وإن ذُكر أنه من أثبت أصحاب أبي إسحاق.

أما الوجه الثاني فيقويه أنه جاء من رواية إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو من أثبت أصحاب أبي إسحاق، وحفظه لحديث أبي إسحاق عجيب، فقد قال هو: «كنت أحفظ حديث أبى إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن» وقال عبد الرحمن بن مهدي عنه: «كان إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ الحمد» (الجرح والتعديل: 2/ 330، مستدرك الحاكم: 2/ 170)، وكان أبو إسحاق قد أملى حديثه على إسرائيل، قال شبابة بن سوار: (قلت ليونس بن أبي إسحاق: أَمِلَّ عليَّ حديث أبيك. قال: «اكتبه عن إسرائيل فإن أبي أملاه عليه»)، وقيل لأحمد بن حنبل: من أحب إليك يونس أو إسرائيل في أبي إسحاق؟ قال: «إسرائيل لأنه صاحب كتاب» (الجرح والتعديل: 2/ 330، 331)، فكون إسرائيل ذا كتاب عن جده يعطي روايته عنه قوة وزيادة ضبط وتثبُّت، وإن كان قد سمع بأخرة من أبي إسحاق، فالإملاء «أعلى وجهي السماع من لفظ الشيخ، كما أن الأداء من الكتاب أضبط وجهي الأداء» (ترجمة إسرائيل بن يونس، للشيخ عبد العزيز العبد

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015