اللطيف، ص295)، ومما لا يُستهان به في تقوية هذا الوجه: كونُهُ ما رجحه الإمامان الحافظان الفَهِمان أبو زرعة الرازي وأبو عيسى الترمذي - رحمهما الله -.

وأما ما ذكر عن أبي داود من تفضيل زهير على إسرائيل بكثير كثير، فهو غريب، وابن معين قارب بينهما، وأبو حاتم يقول: «زهير أحب إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث أبي إسحاق» (الجرح والتعديل: 3/ 589)، وعموم المروي عن الأئمة بتفضيل إسرائيل على غالب الرواة عن أبي إسحاق، وهو الأظهر.

وأما ما ذكر من أن أبا إسحاق كان عالمًا بطريق أبي عبيدة وعدل عنه، فلعله كما قال ابن حجر: «فمراد أبي إسحاق هنا بقوله: (ليس أبو عبيدة ذكره) أي: لست أرويه الآن عن أبي عبيدة، وإنما أرويه عن عبد الرحمن» (الفتح: 1/ 257)، وهذا يدل على أن الوجهين كليهما كانا عند أبي إسحاق، فحدث زهيرًا بهذا، ولمزيد تثبتٍ ليطمئن زهير على ضبطه للحديث (إذ إن سماع زهير من أبي إسحاق كان بأخرة) = قال له: ليس أبو عبيدة ذكره، بالمعنى المذكور. وله احتمال آخر، قال العيني: «قول أبي إسحاق هذا يحتمل أن يكون نفيًا لحديثه - أي: لحديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه - وإثباتًا لحديث عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون إثباتًا لحديثه - أي: أبي عبيدة - أيضًا، وأنه كان غالبًا يحدثه به عن أبي عبيدة، فقال يومًا: ليس هو حدثني وحده، ولكن عبد الرحمن أيضًا» (عمدة القاري: 2/ 302).

ويبقى أن إسرائيل خالف شريكًا، وقد جاءت كلمات الأئمة - كما سبق - في الحكم لشريك عند اختلافهما، لكن لإسرائيل قوة عن أبي إسحاق

- عمومًا وفي هذا الحديث -، وقد توبع هنا، تابعه أبوه وقيس بن الربيع. وثمة أمرٌ آخر، هو أنه لا يمتنع أن يكون أبو إسحاق تحمّل الوجهين من شيخيه ورواهما، وهذا إنما يقبله الأئمة من الحافظ الثقة واسع الرواية، وأبو إسحاق من هذا الصنف بلا شك (انظر - مثالاً - كلام أبي حاتم في ذلك: علل ابن أبي حاتم: 1/ 102)، قال الحافظ ابن دقيق العيد: «فلعل البخاري - رحمه الله - لم يرَ ذلك متعارضًا، وجعلهما إسنادين أو أسانيد»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وبعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثًا ويصححه البخاري، كحديث ابن مسعود لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أبغني أحجارًا أستنجي بهن»، قال: فأتيته بحجرين وروثة، قال: فأخذ الحجرين وترك الروثة، وقال: «إنها رجس»، فإن هذا قد اختُلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه، وهو لم يسمع من أبيه، وأما البخاري فصححه من طريق أخرى، لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة، يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث عن سعيد بن المسيب وتارة عن أبي سلمة وتارة يجمعهما، فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، يظن بعض الناس أن ذلك غلط، وكلاهما صحيح، وهذا باب يطول وصفه»، وقال ابن التركماني: «والبخاري أخرج الحديث من جهة زهير، ولعله لم يرَ رواية إسرائيل معارضةً لروايته، أو جعلهما إسنادين ورجح رواية زهير ... »، وقال العيني: «أبو إسحاق سمعه من جماعة، ولكنه كان غالبًا إنما يحدث به عن أبي عبيدة، فلما نشط يومًا قال: ليس أبو عبيدة الذي في ذهنكم أني حدثتكم عنه = حدثني وحدَهُ، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، ولعل البخاري لم يرَ ذلك متعارضًا، وجعلهما إسنادين أو أسانيد»، وقال أيضًا: «كون حديث أبي عبيدة عن أبيه صحيحًا عند أبي زرعة لا ينافي صحة طريق البخاري»، وقال ابن حجر: «وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له؛ لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون منقطعة، بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة» وهذا السبب قد يوافَقُ عليه ابن حجر وقد يُخالف، لكن المقصود مفهوم كلامه من أن الوجهين كليهما كانا عند أبي إسحاق، وقال الشيخ أحمد شاكر: «ويظهر من مجموع الروايات أن هذا الحديث كان عند أبي إسحاق بأسانيد متعددة عن عبد الله بن مسعود، ويؤيده رواية البخاري (عن أبي إسحاق: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود ... ) إلخ ... »، ثم نقل الشيخ كلام ابن حجر السابق (الإمام: 2/ 570، 571،

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015