في مثل الكلمات والأمثلة المذكورة أعلاه كان رسْمُها واحدًا دون اختلاف.
• أما الكلمات التي لا يدل رسمها على أكثر من قراءة، فإنهم كانوا يرسمونها في بعض المصاحف برسم يدُلُّ على قراءة، وفي بعض آخر برسم آخر يدل على قراءة ثانية، كقراءة (وَصَّى) بالتضعيف و (أوصى) بالهمز، وكذلك قراءة {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100]، بحذف لفظ: (من) قبل (تَحتها)، أو بزيادتها.
يقول الزرقاني: "والذي دعا الصَّحابةَ إلى انتهاجِ هذه الخطة في رَسْمِ المصاحف وكتابتها أنَّهم تلقَّوُا القرآن عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بجميع وجوه قراءاته، وبحروفه التي نزل عليها كافَّة، فكانت هذه الطريقة أدنى إلى الإحاطة بالقرآن على وجوهه كلها، حتى لا يقال: إنَّهم أسقطوا شيئًا من قراءاته، أو منعوا أحدًا من القراءة بأيِّ حرف شاء، على حين أنَّها كلها منقولة نقلاً مُتواترًا عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((فأي ذلك قرأتم، أصبتم، فلا تماروا)) ".
موقف ابن مسعود من هذا الجَمْع
وأمَّا موقفُ ابن مسعود، فإنَّ الأخبار التي جُمِعَت في ذلك تدُلُّ على أمور هي:
أولاً: عدمُ اعتراضِه على رَسْمِ المصحف الإمام.
ثانيًا: اعتراضه على إلزامه بحرف زيد بن ثابت، وتوليه أمر هذا الجمع.
ثالثًا: إقراره بصِحَّةِ حرف زيد، وحرف غيره ممن أخذوا القرآنَ عن النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - بل الأَمْر بلزوم حروفهم.
رابعًا: رجوعه إلى قول الجماعة، وإقراره بالرسم والأداء على ما هو في المصحف العثماني.
وأدلة ذلك:
جمع ابن الأثير طرق اعتراضِ ابن مسعود في "جامع الأصول"، فقال:
6588 - (خ م س) مسروق وشقيق - رحمهما الله - قال مسروق: قال عبدالله: "والذي لا إلهَ غيره، ما أُنزلت سورة من كتاب الله إلاَّ أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلاَّ أنا أعلم فيمَ أنزلت؟ ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغُه الإبل، لركبتُ إليه".
وفي رواية شقيق قال: "خطبنا عبدُالله بنُ مسعود، فقال: على قراءة من تأمروني أنْ أقرأ؟ والله، لقد أخذت القرآنَ مِن فِي رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم".
وفي روايةٍ: "لقد قرأت على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بضعًا وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنِّي من أعلَمِهم بكتابِ الله، وما أنا بخيرهم، ولو أعلَمُ أن أحدًا أعلم مني، لرَحلْتُ إليه".
قال شقيق: "فجلستُ في الحلَقِ أسْمَعُ ما يقولون، فما سمعتُ رادًّا يقول غير ذلك، ولا يعيبه"؛ أخرجه مسلم، وأخرج البخاري الثانية.
وفي رواية النسائي قال: "خطبنا ابن مسعود، فقال: كيف تأمرونني أنْ أقرأَ على قراءة زيد بن ثابت، بعدما قرأتُ مِنْ فِي رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِضْعًا وسبعين سورة، وإنَّ زيدًا مع الغلمان له ذؤابتان".
وفي هذا الخبر دلالةٌ صريحة لفحوى اعتراضِ ابن مسعود، وأنَّه فقط في إلزامه بحرف زيد على الظَّنِّ بأنَّ الرسمَ يُلغي حرفه، وهو قد علم من رسول الله عن طريق الثِّقات تزكيةَ حرفه، بل شهد له النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - بالإتقان، كما في حديث عمر: مَن سَرَّه أن يأخذ القرآن غضًّا طريًّا كما نزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.
وكما روى هو نفسه أنَّه قرأ أول النساء، والنبي على المنبر، فقال له: ((أحسنت)).
وقد تعنَّت مُتعنت فزعم أنَّ في هذا الخبر دلالةً على أن ابن مسعود لم يكن قد حَفِظَ القرآن كاملاً حياةَ النبي، ولا دلالةَ فيه، فقد جاء في الخبر الصَّحيح بيانُ ذلك، فعن عاصم عن زر عنه في خبر إسلامه قال:
لقد أخذت سبعين سورة من فِي النبي ما ينازعني فيها بَشَرٌ أو أحد، والمعنى كما قال الطحاوي لم يشاركني فيها أحد، والمراد سبقه لسماعها، وأخذها من في النبي.
¥