قال مكي بن أبي طالب: وكان قد تعارف بين الصحابة على عهد النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يكن ينكر أحدٌ ذلك على أحدٍ، لمشاهدتهم من أباح ذلك، وهو النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا انتهى ذلك الاختلاف إلى ما لم يعاين صاحبَ الشرع، ولا علِم بِما أباح من ذلك، أنكر كلُّ قومٍ على الآخرين قراءتَهم، واشتَدَّ الخِصام بينهم.
رأى هذا الخلافَ العظيم حذيفةُ بن اليمان، إضافةً إلى ما رآه مِنَ الاختلاف بين الناس في القراءة في العراق، ففزع إلى عثمان بن عفان، وأنذره بالخطر الدَّاهم، وانضم ذلك إلى ما عاينه عثمان - رضي الله عنه - من الخلاف بين المعلمين، وكذلك بين الغلمان، فصدَّق ذلك ما كان استنبطه من أن من كان أبعد من دار الخلافة بالمدينة، فهو أشدُّ اختلافًا.
عن ابن شهاب أنَّ أنس بن مالك حدثه أنَّ حُذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهلَ الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أميرَ المؤمنين، أدركْ هذه الأمةَ قبل أن يَختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى.
وعن زيد بن ثابت أنَّ حذيفة بن اليمان قدم من غزوة غزاها، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس، فقال عثمان: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج [مرج] إرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فيكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام، قال زيد: فأمرني عثمان أن أكتبَ له مصحفًا.
فكانت هذه الْحادثةُ هي أهمَّ الأسباب التي بعثت على جمع القرآن في زَمنِ عثمان، فقد أكدت ما ظنه - رضي الله عنه - من أنَّ أهل الأمصار أشدُّ اختلافًا مِمَّن كان بدار الخلافة بالْمدينة وما حولَها.
ولهذا انعقد عزمُ الصحابة - رضي الله عنهم - بعد ما رأوا من اختلافِ الناس في القراءة - على أن يَجمعوا القرآن، ويرسلوا منه نُسَخًا إلى الأمصار؛ لتكون مرجعًا للناس يرجعون إليه عند الاختلاف.
فانتدب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لذلك اثني عشر رجلاً، وأمرهم بأنْ يكتبوا القرآن في الْمصاحف، وأنْ يرجعوا عند الاختلاف إلى لُغَةِ قريش.
عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمانُ أن يكتبَ المصاحف، جَمَعَ له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت.
والذي يظهر أنَّ عثمان - رضي الله عنه - انتدب رجلين فقط أولَ الأمر، هما زيد بن ثابت وسعيد بن العاص.
كما جاء عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ - في قصة جمع القرآن زَمَنَ عثمان - أنَّه قال: فقيل: أيُّ الناس أفصح؟ وأي الناس أقرأُ؟ قالوا: أفصح الناس سعيد بن العاص، وأقرؤهم زيد بن ثابت، فقال عثمان: ليكتب أحدهُما ويُملي الآخر، ففعلا، وَجُمِع الناسُ على مصحفٍ.
قال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح.
فالظاهرُ أنَّهم اقتصروا عليهما أوَّلَ الأمر للمعنى المذكور في هذا الأثر، ثُمَّ لَمَّا احتاجوا إلى من يُساعد في الكتابة بِحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي تُرسل إلى الآفاق، أضافوا إلى زيدٍ وسعيدٍ عبدَالله بنَ الزبير وعبدَالرحمن بنَ الحارث بن هشام.
فعن أنسٍ أنَّ عُثمان دعا زيدَ بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيِّين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسانِ قريش، فإنَّما نزل بلسانهم، ففعلوا ذلك.
ثم أضافوا بعد ذلك آخَرِينَ بحسب ما كانوا يَحتاجون إليه من الإملاء والكتابة، وكان منهم أبيُّ بن كعب الذي احتاجوا إليه للاستظهار، كما ورد في رواية محمد بن سيرين السابقة.
وقد وقع في الروايات الواردة تسمية تسعةٍ من هؤلاء الاثني عشر رجلاً، وهم:
1 - زَيْد بْن ثَابِتٍ.
2 - عَبْداللهِ بْن الزُّبَيْرِ.
3 - سَعِيد بْن الْعَاصِ.
4 - عَبْدالرَّحْمَنِ بْن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.
وهؤلاء هم الأربعة المذكورون في حديث أنس بن مالك السابق قريبًا.
5 - أبي بن كعب، كما في حديث كثير المتقدم أيضًا.
6 - أنس بن مالك.
7 - عبدالله بن عباس.
8 - مالك بن أبي عامر، جد مالك بن أنس، ثبت ذلك من روايته.
¥