كان الناسُ يَقْرَؤُون كما عُلِّموا، فأهلُ الشام يقرؤون بقراءة أُبَيِّ بن كعب، وأهل الكوفة يقرؤون بقراءة عبدالله بن مسعود، وأهل البصرة يقرؤون بقراءة أبي موسى الأشعري، وهكذا.

فعن حذيفة قال: أهلُ البصرة يقرؤون قراءةَ أبي موسى، وأهل الكوفة يقرؤون قراءة عبدالله.

وكان هؤلاء القراء من الصَّحابة - رضي الله عنهم - قد شهدوا نزولَ القرآن، وسَمعوه من النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلموا وجوه قراءته، ولم يكن شيءٌ من ذلك لِمن تعلَّم منهم في الأمصار، فكانوا إذا اجتمع الواحد منهم مع مَن قرأ على غَيْرِ الوجه الذي قرأ عليه يعجبون من ذلك، ويُنكِر بعضهم على بعض، وقد يصل الأمرُ إلى تأثيم أو تكفير بعضهم البعض.

عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إني لفي المسجد زمنَ الوليد بن عقبة في حَلْقةٍ فيها حذيفة، إذ هَتَفَ هاتفٌ: مَن كانَ يقرأ على قراءة أبي موسى، فليأتِ الزاويةَ التي عند أبواب كِنْدةَ، ومن كان يقرأ على قراءة عبدالله بن مسعودٍ، فليأتِ هذه الزاويةَ التي عند دار عبدالله، واختلفا في آية من سورة البقرة، قرأ هذا: (وأتِمُّوا الحج والعمرة للبيت)، وقرأ هذا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، فغضب حذيفةُ واحمرَّت عيناه، ثم قام ففرز قميصَهُ في حُجْزَتِه وهو في المسجد، وذاك في زمن عُثمان، فقال: إمَّا أن يَرْكبَ إليَّ أميرُ المؤمنين، وإمَّا أن أرْكبَ، فهكذا كان مَن قبلَكم.

عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنَّ عثمان قال: فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا، قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ، قلنا: فنعم ما رأيت.

وانتشرت حلقات تعليم القرآن، فانتقل الخلاف إلى الغلمان والمعلمين، فخطَّأ بعضهم بعضًا، وأنكر بعضهم قراءة بعض.

فعن أبي قلابة قال: لَمَّا كان في خلافة عثمان، جعل الْمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، والمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، فجعل الغلمان يلتقون فيَختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين، قال: حتى كَفَر بعضهم بقراءة بعضٍ، فبلغ ذلك عثمان، فقام خَطيبًا، فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشدُّ فيه اختلافًا ولحنًا، اجتمعوا يا أصحابَ محمدٍ، فاكتبوا للناس إمامًا.

والظاهر أنَّ هذه الأحداث كانت قبل غزو إرمينية وأذربيجان، ولَمَّا وقع ما وقع من الخلاف الشديد والفتنة العظيمة بين المسلمين في غزو إرمينية وأذربيجان، تأكدت الحاجة إلى جمع جديد للقرآن، يُلَمُّ به شمل المسلمين، وتجتثُّ به جذور تلك الفتنة.

قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصة لحذيفة يظهر لي أنَّها كانت مُتقدمة على القصة التي وقعت له في القراءة، فكأنَّه لَمَّا رأى الاختلاف أيضًا بين أهل الشام والعراق، اشتدَّ خوفه، فركب إلى عثمان، وصادف أنَّ عُثمان أيضًا وقع له نحو ذلك.

2 - غزو إرمينية وأذربيجان:

في عام خمسة وعشرين من الهجرة النبوية اجتمع أهلُ الشام وأهلُ العراق في غَزْوِ إرمينية وأذربيجان.

قال الذَّهبي: جاشت الرُّوم، حتى استمدَّ أمراء الشام من عثمان مَدَدًا، فأمدَّهم بثمانية آلافٍ من العراق.

وكان أميرُ جند الشام في ذلك العسكر حبيبَ بن مسلمة الفهري، وكان أمير جند العراق سلمانَ بن ربيعة الباهلي، وكان حذيفةُ بن اليمان من جملة مَن غزا معهم، وكان على أهل المدائن من أعمال العراق.

وكان أهلُ الشام يقرؤون بقراءةِ أبي بن كعب، وكان أهلُ العراق يقرؤون بقراءة عبدالله بن مسعود، فتنازع أهل الشام وأهل العراق في القراءة، حتى خطَّأ بعضهم بعضًا، وأظهر بعضهم إكفار بعضٍ، والبراءة منه، وكادت تكون فتنة عظيمة.

وكان السبب وراء هذا الخلاف عدم مشاهدة هؤلاء نزولَ القرآن، وبُعْدهم عن معاينة إباحة قراءته بأوجهٍ مُختلفة، فظنَّ كلٌّ منهم أن ما يقرأ به غيره خطأ لا يَجوز في كتاب الله، فكادت تكون تلك الفتنة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015