تعبير صريح عن السماحة التي جاء بها دين الله، واتصفت بها شخصية رسول الله في سلوكه ومنهجه في التعامل مع من أنكروا دعوته، إخبار يعبر عن مدى احترام الإنسان وتقدير كرامته مهما نتج عنه من سوء الاعتقاد والفكر، المنهج القويم الذي لا إكراه فيه ولا إجبار في إتباعه، بل للإنسان حرية الاعتقاد بما يشاء وإتباع ما شاء ما دام أنه لا يعتدي على حقوق الآخرين، ولا يحاول التأثير فيهم ونشر معتقداته التي لا تتفق مع المنهج الرباني القويم، ما دام منشغلا بنفسه ويدور حولها دون الخروج بعيدا عنها. قال الله تعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف29
ولكن ذلك لا يعني أن الله بذلك لا يتوعدهم ولا يهددهم بعاقبتهم إن اختاروا طريق الكفر، ولا يعني إعطاء الحرية المطلقة والعنان في الاعتقاد لمن شاء، فهناك حدود وضوابط يجب أن لا تتعدى لمن لا يهتدي إلى الحق.
ويظهر هنا مدى قوة شخصية الإيمان وثبات قواعدها وعدم قبولها لما يزعزع مقوماتها، وذلك يتمثل في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تثبت بربه، وآمن بصدق دعوته ومنهجه، ولن يسمح لمعتقدات الجهل والانحراف أن تتسرب لنفسه أو دعوته، فكيف وهو ما مال إليها أبدا قبل بعثته، ثم هنا إظهار للشخصية المعاكسة للإيمان، والتي حاولت أن تستغل ما جاء به النبي وتساوم عليه، لعلها تنال من ذلك تحقيق المصلحة الذاتية وتحافظ على مصالحها المنطلقة من منهج الكفر والضلال، إنها النفسية المتقلبة المهزوزة والتي تميل حسب ما ترى فيه مصلحتها النفعية الدنيئة، شخصية لا تملك قواعد الثبات والاستقرار، هشة البنيان والتركيب، من الصعب إقناعها وتغير معتقداتها وتشوهاتها لأنها بنيت على شدة التعصب الوهمي المنحرف.
فهذه الأية تأكيد للذات الايمانية الثابته المتمثلة بشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام والتي ستقود الأمة وتقودها إلى العالمية، الشخصية التي ستكون قدوة للعالمين بقوتها، وصحة اعتقادها وثباتها على الحق، والتي لا تميل إلا معه أينما مال، ولا تسمح للباطل أن يتسرب بين جوانحها، وأن يزين أبصارها، إنها الشخصية التي ستُعلم العالم، وتكون المثال العظيم لأمته ليحتذوا حذوه، ويسيروا على منهجه بعدم الإنصياع والتذلل والتساوم على دين الله، مهما اشتدت الكربات والمحن، وان كل من يفعل ذلك فقد أوقع نفسه فريسة الفتن والهلاك، ثم جاءت الأية لتبين الذات المضاده للايمان والتي بنيت على الباطل، لتظهر ضعفها وهشاشتها وسرعان ذوبانها وانسلاخها عن واقع الوجود، فمهما طال بها الزمان بالبقاء والعلو فهذا كله زيف وبطلان.
وقد جاء في تفسير الظلال حول هذه الأية بقوله
" إنها تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان. وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها. وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف. أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلاً. ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد. . وهذا الإغراء في منتهى الخطورة! "
فالخطاب الأخير من الرسول صلى لله عليه وسلم والذي يؤكد فيه على أنه لا يعيش إلا لخالقه ولا يستسلم إلا إليه، فهو العبد المنقاد إلا لمن أوجده وسواه، فهذه العبودية ليست كأي عبودية، إنها التحرر من كل براثن الضلال والهوى والاستسلام والانقياد لرب السموات والأرض، فالدين هو كل ما تحركت و سكنت به نفسه ونوازعه، فلا يتنفس ولا يحيا إلا ضمن منهج الحق ودعوة التوحيد، فكيف سينظر لدين وملة لا تتميز بشيء من التأثير في النفس من الخير الذي تمثل به دين الله.
ويقول الامام الرازي في تفسيره
" {لَكُمْ دِينَكُمْ} يفيد الحصر، ومعناه لكم دينكم لا لغيركم، ولي ديني لا لغيري، وهو إشارة إلى قوله: {أَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 38، 39] أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ، وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول، فأنا لمافعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف، وأما إصراركم على كفركم فذلك ممالا يرجع إلي منه ضرر ألبتة."
¥