التأكيد على ملاصقة صفة الكفر لحالهم واستمرارها فيهم حتى فنائهم وموتهم وأنها لا يمكن أن تتغير فيهم الاعتقادات والأفكار وأن تتفتح البصائر فيهم وأن تستنير قلوبهم وعقولهم لترى نور الحق، لأنهم فضلوا ومالوا إلى أن يبقوا في الضلال والعمى وعدم البصيرة فوقع الرين بالمعاصي على القلوب، وغلفتها بغلاف الجهل والانحراف، فكيف لها أن تبصر وقد تعمقت في بحر الظلمات حتى تراكمت ظلمات فوق بعضها.
يقول الامام الرازي حول تفسير هذه الأية واحتمال التكرار فيها
" أن التكرير يفيد التوكيد وكلما كانت الحاجة إلى التأكيد أشد كان التكرير أحسن، ولا موضع أحوج إلى التأكيد من هذا الموضع، لأن أولئك الكفار رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مراراً، وسكت رسول الله عن الجواب، فوقع في قلوبهم أنه عليه السلام قد مال إلى دينهم بعض الميل، فلا جرم دعت الحاجة إلى التأكيد والتكرير في هذا النفي والإبطال "
ويؤكد الله على ما يريده على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
(وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)
عندما تصر الذات الخبيثة وتعاند لتبقى متلبسة بأفكار الزيغ والضلال، وتبقى مُسلمة متوجه لغير الله في الانصياع والطاعة والاستعانة على أمور الحياة ومشقاتها، فيجئ تصريح القرآن الكريم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسن قانونا حول صفات الكافرين ومعاندتهم، لأن هؤلاء القوم قد توحدوا واعتصموا في منطقهم ومنهجهم الضال، وتحجرت قلوبهم فما انشقت لنور والإيمان، لقد سُلخت نفوسهم وقلوبهم عن ملابسة الحق، فرغم معاصرتهم لرؤيته الرسول صلى الله عليه وسلم وسماعهم لكلم الفصل منه والمبشر بالخير والمحذر من الهلاك، ورغم رؤية كثير من الدلائل والمعجزات على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وثبات رسالته، إلا أن قلوبهم ما اهتدت للخير والرشاد، بل زادت في عصيانها وتصلبها حتى أصبحت كالحجارة أو أشد،
فقد عرفوا الحق وأنكروه، واشتروا به ثمنا قليلا، فاستحقوا أن يصرفهم الله عن طريق الإيمان، وأن يبقوا في ضلالهم مغرقين، فالتأكيد على ما تلبست به نفوس هؤلاء الكافرين مستحيل عليهم أن يفعلوا ويطيعوا ما فعله رسول الله وما اتخذه منهجاً للطاعة لربه، فهم سيبقون مستمرين في الغي والضلال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى مستمراً في نور دعوته وتوحيده لربه، فهذان ضدان لا يشتركان ولا يلتقيان في منهج الحياة السوي، فلو اتبعوا خطوات الرسول صلى الله عليه لاستدلوا على الهدى والإيمان، ولو مهدوا السبيل لنفوسهم للارتقاء بما عند الله لفازوا بنعيم الدنيا والآخرة، لكنهم هم الخاسرون المحرومون، أما أهل الإيمان والتوحيد فقد سلكوا ومهدوا الطريق لأنفسهم وذللوها للهدى من داخل ذواتهم ونوازع ونفوسهم وجوارحهم، فاهتدوا للمنهج القويم والطريق المستقيم، فعلم الله صدق مسلكهم فزادهم الله هدى وإيمانا وكانوا هم الفائزون.
يقول ابن عاشور في تفسيره حول هذه الأية
" أنها عطف على جملة: {ولا أنا عابد ما عبدتم} [الكافرون: 4] لبيان تمام الاختلاف بين حاله وحالهم وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخباراً ثانياً تنبيهاً على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله، وتقويةً لدلالة هذين الإِخبار على نبوءته صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عنهم بذلك فماتَ أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوءة ".
ثم يأتي التخصيص والتفرد لدين الله وأمته عن غيرها من الأديان والأمم بقول الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
يقول ابن عاشور حول معنى الدين
" أنه العقيدة والملة، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، فلذلك سمي دِيناً لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء ".
وجاء في الصحاح في اللغة عن معنى الدين
" أنه الجزاءُ والمكافأةُ. يقال: دانَهُ ديناً، أي جازاه. يقال: كما تَدينُ تُدانُ، أي كما تُجازي تُجازى، أي تُجازى بفعلك وبحسب ما عملت. وقوله تعالى: " أَءِنَّا لَمَدينونَ " أي مجزيُّون محاسَبون. ومنه الدَيَّانُ في صفة الله تعالى. وقومٌ دينٌ، أي دائنونَ."
¥