ثم يأتي النفي القطعي المستحيل عن ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر منها سلوك التوجه والتذلل والعبودية لغير الله، فقال ولا أنا عابد أي ولا أنا فاعل ما تفعلونه، فمن الاستحالة على رسول الله أن يكون عابدا لغير الله، فالضمير (أنا) العائد إلى ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذات هي مجموعة الصفات النفسية والعقلية والروحية التي تتركب منها الشخصية، والتي يصدر عنها السلوك والتفاعل في الحياة.
فشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيت على الإيمان الخالص المنقاد به للاستسلام إلى ربه، والقائم على التوحيد لله حتى قبل نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد كانت أخلاقه وصفاته تشهد بعلو هذه الروح وارتفاع شأنها وتميزها عن باقي شخصيات البشر كلها منذ أن خلق الله الخلق، فما آمن عليه السلام يوما بوثن، ولا سجد لصنم، ولا فعل سلوك سلبي عم المجتمع الذي عاش فيه منذ مولده عليه الصلاة والسلام، ففطرته منقادة إلى الاستدلال على وجود خالق عظيم شكل ذلك الكون وأوجده، فانقطع بخلوته وهجر الناس وما يفعلونه من الضلال، ليعيش أوقات التأمل والتفكر التي دعته إلى تسبيح ربه وتعظيمه، فاختاره الله للرسالة الخاتمة لحملها بأمانة ما عرفتها البشرية يوما كما عرفتها بصفات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، لقد كان عابداً متنسكاً متذللاً لربه الذي لقبه وناده في كتابه بعبده، وذلك لشدة عبوديته وانتسابه إلى ربه وخالقه وتوجهه إلى التوحيد لله وحده، وحال العابد أن يكون مستمرا على الفعل والتوجه وعدم الانقطاع عنه أو الانفصال بالتوجه إلى غيره، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم من ربه أنه قال (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أو في المجلس مئة مرة) رواه مسلم فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبر عن تقصيره وضعفه وحاجته لربه كل يوم مئة مره وهو المعصوم عن التقصير، ألا يدل ذلك على قوة الارتباط والملاصقة الدائمة التي تحركت بها كل جوارحه لتذكره بربه وخالقه.
أيأتي بعد ذلك هؤلاء الجاهلون ليساوموا رسول الله على أمر دينه، أليسوا أغبياء جهلاء قصرت عقولهم عن الفهم والتدبر والمعرفة لحال رسول الله، وقوته الداخلية والخارجية والنابعة من الذات الإيمانية التي بنيت بصلابة الاتصال بالله، لقد رغب هؤلاء الكافرين في ميل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلق بمصالح الدنيا، وأن يشغل ذلك الدين لمصلحته وسلطانه، أرادوا أن يعبد ألهة خرقاء صماء لا تليق بالإنسان أن يتوجه إليها وهو الأكرم عند الله، على أن يبقى عابدا لربه حسب ميزانهم، ولكنهم خسئوا وخابوا في آمالهم، فيخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأدبه وخلقه الرفيع الذي ما عرفت مثله البشرية، بصوت القوة مستبعدا ومحقرا لما يقولونه وما يقترحونه عليه من منهجهم الشاذ في العبودية، فتقديم الضمير على الفعل يدل على نفي اتصاف نفسه صلى الله عليه وسلم بما اتصفت به نفوسهم من تشوه الاعتقاد وانحرافه، فنفي العبادة نفي لفعل عبادتهم هم الذين ظنوا أنهم يستطيعون أن يساوموا ويفاوضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لتغير قناعاته الثابتة بلحاقه بمركب الكفر والنفاق، وهذا محال على رسول الله، فملة الكفر وإن كانت متعددة، فهي تجتمع على الضلال ونفس الهدف الذي يسعى لهدم بنيان الحق والتوحيد، فالمعركة محسومة عند الله، والقانون واحد والتشريع والإله واحد فلا عبودية تصلح على هذه الأرض إلا لله وحده، فكل من يقع في فتنه هؤلاء المساومين على الدين ليتاجر به من أجل نيل رضا السلاطين والأمراء والزعماء، متجاهلا لأمر ربه وما أعطاه الله من معرفة واختصاص بهذا الدين فليحذر من غضب الله وسلطانه القريب.
ويقول ابن عاشور حول هذه الأية
" لبيان تمام الاختلاف بين حاله وحالهم وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخباراً ثانياً تنبيهاً على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله، وتقويةً لدلالة هذين الإِخبار على نبوءته صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عنهم بذلك فماتَ أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوءة "
¥