متفكرا بألاء ربه لتدله على عظمة الصانع لهذا الكون، وكان يحقر ما يفعله قومه وينبذ ما يعبدون من الحجارة والأوثان، ويتعجب من حالهم كيف يعبدون ما لا يضر ولا ينفع، فكيف به بعد بعثته صلى الله عليه وسلم يتوجه لغير ربه ويعبد ألهتهم، ويعتقد بجاهليتهم فهذا من الاستحالة الكبرى على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عاشور حول هذه الآية
" لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقاً لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه (لا) النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في «الكشاف»، وهو قول جمهور أهل العربية. ومن أجل ذلك كان حرف (لَن) مفيداً تأكيد النفي في المستقبل زيادة على مطلق النفي، ولذلك قال الخليل: أصل (لَن): لا أنْ، فلما أفادت (لا) وحدها نفي المستقبل كان تقدير (أنْ) بعد (لا) مفيداً تأكيد ذلك النفي في المستقبل فمن أجل ذلك قالوا إن (لن) تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن (لا) كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل ".
فمفهوم العبودية لدى هؤلاء الكافرين مشوه بما حمل فيه من اعتقادات وأفكار الشرك والضلال، فالعبودية هي الاستسلام والتذلل والتنسك لله وحده، وأن لا تتحرك ولا تتوجه ولا تسكن إلا إليه سبحانه، وأن لا تعتمد على أحد سواه، ولا تلجأ إلا إليه، ولا تطلب حاجتك إلا منه، ولا ترى في الوجود سواه، وأن يدلك كل ما في الكون عليه، ولا توجه شكرك وحمدك إلا لفضله، ولا تهاجر إلا إليه، فالعبودية أن تكون كل أنفاسك وحياتك لله وحده، فإن أشرك العبد مع ربه وخالقه أحدا وجعله موازيا في ربوبيته فقد وقع في الشرك والكفر، فالعبودية لله هي حرية الإنسان الكاملة من كل ما يقيد قلبه وعقله وسلوكه عن التوجه لله، سواء كان بإتباع الشهوات أو الشبهات، فما على الإنسان إلا أن يعيش حراً من أي شيء سوى الله وعبدا لله وحده.
جاء في تفسير الرازي حول معنى هذه الأية
" أن المقصود من الأولين المعبود وما بمعنى الذي، فكأنه قال: لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله، وأما في الأخيرين فما مع الفعل في تأويل المصدر أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين، فإن زعمتم أنكم تعبدون إلهي، كان ذلك باطلاً لأن العبادة فعل مأمور به وما تفعلونه أنتم، فهو منهي عنه، وغير مأمور به "
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
ثم تأتي هذه الآية تخاطب ذواتهم وتعيدهم للوعي بحقيقة أنفسهم وما تحمل صدورهم، بتأكيد ما هم عليه من الكفر، وأنه من الاستحالة عليهم أن يعبدوا ما يعبده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لن يتوجهوا إلى ربه بالصدق والإخلاص الذي امتلأ به قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم، فجاء النفي مع الضمير ليؤكد حقيقتهم الضالة وتقديم الضمير الراجع إلى نفوسهم ليبين ما تحمل من عقائد وأفكار فاسدة، ويؤكد أن كفرهم وعدم الإيمان سوف يلازمهم بصورة مستمرة حتى فنائهم، فقد انطلقوا من ماضيهم الذي توارثوه عن دين أبائهم وجاهليتهم المظلمة، فيؤكد على أن هؤلاء الكافرين صبغوا أنفسهم بصبغة الضلال، فغطوا حقائق التوحيد وصدُوها عن محاولة الدخول لقلوبهم لتكشف لهم االنور الذي يخرجهم من اسوداد منهجهم، بل سيبقون متعنتين يستفزهم ذكر التوحيد والدعوة إلى الله، ويثار غضبهم وتشحن بانفعال الشر كلما سمعوا نداء يناديهم للحق وهجر الكفر، ثم تأتي الأية لتكمل استحالتهم في التأثير بقوة اعتقاد ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحالة تأثرهم بعقيدتة الإيمانية.
يقول ابن عاشور حول هذه الاية
" جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله: {ولا أنتم عابدون}، أي ما أنتم بمغيِّرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدِئوا هُم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبي صلى الله عليه وسلم سنة. وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ ".
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
¥