فهؤلاء الذين عرفوا الحق وشاهدوه، وسمعوا به وأعرضوا عنه، بتغطية القلوب والأبصار عن الإدراك والمعرفة واكتساب البصيرة الحية التي تؤدي للإيمان السوي وحسن الاعتقاد، فانطلقوا من منهج الظلام والضلال وطبعوا على قلوبهم غشاوة لا يُرى من خلالها بصيص نور، إنهم الذين اختاروا لأنفسهم الاعتماد على حياتهم الدنيا، فأوكلوا إليها أمورهم، وتسابقوا وراء نيل شرفها ولم ينتبهوا للحياة الآخرة وما فيها من نعيم الخلود، لقد أكثروا الجدال مع الرسول صلى الله عليه وسلم محاولين المساومة على الحق، لعلهم ينالون منه نصيب في الدنيا مع الاحتفاظ بمنهجهم، هؤلاء الذين شوهوا مفهوم العبودية، من خلال الإشراك بالله والتقرب إليه بما يقدمونه لألهتهم مدًعين أنها قادرة على ذلك، هم الذين أعلنوا براءتهم من الإيمان والولاء لله، وجعلوا ولاءهم للشيطان وحزبه والبعد عن الهدى، وهم الذين دثروا أنفسهم بلباس الانحراف والطغيان فما استطاعت أن تخلعها وتبعد ملاصقتها وتفريغها من داخلها لشدة الملابسة الدائمة لها، إنهم من عاشوا بين الأحياء وهم أموات، فحفروا قبورا لنفوسهم فسقطوا بها فكان من الصعب الصعود والارتقاء منها، إنهم من أصبح حال سلوكهم كالأنعام بل هم أضل، فحاربوا الحق وتطاولوا على الله ورسوله بباطلهم المهزوز، هؤلاء الكافرين الذين توحدت صفاتهم وأخلاقهم وعقيدتهم، فأصبحوا ملة واحده يتنافسون ويتسابقون في ساحة الحياة على من يعلو بصوته أكثر ضد الحق، ينعقون بأصوات الكفر والطغيان، إنهم من بذروا بذوراً للشر والفساد في الأرض، لتنبت كفرا وفسوقا وعصيانا، وتقيم عقائد الإلحاد والفساد بين الناس فتشوه العقول والإدراك، إنهم الذين ما نامت أبصارهم ولا غفلت قلوبهم عن الكيد والتخطيط والتدبير من أجل قطع وصال الود مع الله، فكانوا مترقبين متيقظين لكل حركات الحق أينما كان، وهم من أنكروا وجحدوا فضل ربهم، بما منً عليهم من الخير والعطاء الكبير، وأعظمها أن بعث الله لهم نبيا ورسولا مرسلا، ليوقظهم من غفلة النوم الطويل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسلك بهم طريق الهدى والحق، فيفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة، لكنهم ما استجابوا وكفروا وجحدوا بذلك، وحاربوا فضل الله عليهم، فقد كانوا أئمة في قيادة الباطل ودعوة الآخرين والتأثير في نفوسهم لإقناعهم بعقيدتهم المشوهة، فكانوا ينظرون إليهم مذعنين لنهجهم فجعلوهم أهل قوة وسلطان.
فهذا وصف لبعض السلوكيات والسمات العقلية والنفسية لهذه الشخصيات التي خوطبت بصفة الكفر، وقد جعل الله الخطاب القرآني يأتي مخاطبا لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرهم بحقيقتهم التي يحاولون إنكارها أو الفرار منها، فتستفز نفوسهم وتثار غضباً وشدة، عندما تسمع ذلك اللقب الملازم لحقيقتهم من الله، فكيف لا وهم من استحقوا ذلك من خالقهم والعليم بحال قلوبهم.
يقول ابن عاشور حول وصفهم بالكافرين
"ونُودوا بوصف الكافرين تحقيراً لهم وتأييداً لوجه التبرؤ منهم وإيذاناً بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يَكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم ".
ثم يأتي الجهر بالقول على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله سبحانه وتعالى:
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
إنها البراءة الثانية من رسول الله لفعل واعتقاد هؤلاء الكافرين من استحالة أن يُساوم الكفر مع الإيمان، وأن يسيران بمنهج واحد وسبيل واحده، واستحالة أن يتداخل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقاده مع فعل الكافرين واعتقادهم، فنفي فعل العبودية لغير الله عن رسول الله في الماضي والحاضر والمستقبل، وجعل فعل العبودية لله وحده، فالتوحيد لا يتفق مع الشرك أبدا، فمجيء الفعل بالإفراد للعبودية لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على إخلاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبوديته بالتوحيد له وحده، أما فعلهم بالعبودية فقد جاءت بصيغة الجمع والفعل المضارع المستمر والذي يدل على تعدد الآلهة، واستمرار الكفر والشرك منهم، سواء كان ذلك من الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فهم في عبودية مشتركة لن تؤدي للإيمان أبدا، وكما أن التاريخ شاهدٌ على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته حيث فر من الشرك ومما عبده قومه واعتقدوه، فما توجه لصنم أو اعتقاد جهل أو سلوك منحرف، بل انقطع في خلوته
¥