القول الحسن بقلم الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس

ـ[أبو طيبة]ــــــــ[23 - عز وجلec-2010, صباحاً 01:11]ـ

القول الحسن

?وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? [الإسراء: 53]

اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان، والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، وبه يتحاجون ويتفاوضون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاقحت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات.

فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه، وبريد عقله وواسطة تفاهمه. فإذا حسن قويت روابط الألفة، وتمكّنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم، وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي على التعاون والتوازر، و جنى العَالَمُ من وراء ذلك تقرر الأمن واطرد العمران. وإذا قبح كان الحال على ضدّ ذلك.

فالكلام السيئ قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستمداد و التعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل، وفي ذلك كلّ الشرّ لأبناء البشر.

فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم هو القول الحسن، ولهذا أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرشد العباد إلى قول التي أحسن فقال تعالى: ? وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?

والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون، لوجهين: الأول أنهم أضيفوا إليه، وهذه إضافة شرف لا تكون إلا للمؤمنين به. الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد، ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا على أصل الإيمان.

والتي هي أحسن: هي الكلمة الطيبة، والمقالة التي هي أحسن من غيرها، فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس حتى ينادي بعضهم بعضا بأحبّ الأسماء إليه، وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم، حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء، وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضع المتنازع فيه، دون إذاية لخصمه، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به، وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلّة فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس، خالية من السّبّ والقدح، ومن الغمز والتعريض، ومن أدنى تلميح إلى شيء قبيح.

وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم أو بينهم وبين غيرهم، وقد جاء في الصحيح أنّ رهطا من اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وآله سلّم - فقالوا: السام عليكم، ففهمتها عائشة -رضي الله عنها -، فقالت: وعليكم السام واللعنة. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: مهلا يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كلّه. فقالت: ألم تسمع ما قالوا؟ فقال: قد قلت: وعليكم. فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله: وعليكم أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال - صلى الله عليه وسلم - القولة التي هي أحسن، وهذا هو أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.

وأفاد قوله تعالى: (أحسن) بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام. فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيئ جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن.

وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كلّ كلمة تقال ولو كلمة واحدة، فربّ كلمة واحدة أوقدت حربا، وأهلكت شعبا، أو شعوبا، و ربّ كلمة واحدة أنزلت أمنا، وأنقذت أمة أو أمما.

وقد بين لنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: الكلمة الطيبة صدقة، واتقوا النار ولو بكلمة طيّبة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015