و هذا الأدب الإسلامي - وهو التروي عند القول، واجتناب السيئ، واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد و هنائهم. وما كثرت الخلافات، وتشعبت الخصومات، وتنافرت المشارب، وتباعدت المذاهب، حتى صار المسلم عدوّ المسلم، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم – يقول: المسلم أخو المسلم، إلا بتركهم هذا الأدب، وتركهم للتروّي عند القول، والتعمّد للسيئ بل للأسوإ في بعض الأحيان.
التحذير من كيد العدو الفتان
? إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ?
نزغ الشيطان: وسوسته ليهيج الشر والفساد. وعداوته باعتقاده البغض، وسعيه في جلب الشر والضر. وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء، ويهيج غضبه ليقوله، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتدّ المراء، ويقع الشر والفساد. ولون آخر من نزغه، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال سوء، ويلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح - حتى يقولها، فإذا قالها أعاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته، ويهيج غضبه، حتى يثور، فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا، فيتباعدون عما فيه احتمال السوء فضلا عن صريحه، ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له، ويتجاوزون عن سيئه الصريح ما أمكن التجاوز.
المحاسنة على الحال والظاهر والتفويض إلى الله في العواقب والسرائر
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [الإسراء: 54]
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حال المناظرة والمجادلة، وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة. فما أكثر ما يضلل بعضٌ بعضا أو يفسقه أو يكفره فيكون ذلك سببا لزيادة شقة الخلاف اتساعا، وتمسك كلٍّ برأيه ونفوره من قول خصمه، دع ما يكون عن ذلك من البغض و الشر. فذكّر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء بحكمته وعدله، فلا يقطع لأحد أنه من أهل النار لجهل العاقبة، سواء كان من أهل الكفر، أو من أهل الفسق، أو من أهل الابتداع، كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك، إلا من جاء نصّ بهم.
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته أنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر وسوء عاقبته. ولا يقال للمبتدع: يا ضال، وإنما تبين البدعة وقبحها. ولا يقال لمرتكب الكبيرة: يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها. فتقبح الرذائل في نفسها، وتجتنب أشخاص مرتكبيها، إذْ رُبَّ شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال، وربّ شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله- على عقبه في هاوية الوبال.
وخاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرسله وكيلا على الخلق، حفيظا عليهم، كفيلا بأعمالهم. فما عليه إلا تبليغ الدعوة ونصرة الحق بالحق، والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم. خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به من قول التي هي أحسن للموافق والمخالف فلا يحملنهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلهما، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه، فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه. أحيانا الله عليهما، وأماتنا عليهما، وحشرنا في زمرة أهلهما، آمين.
المرجع:
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير للشيخ عبد الحميد بن باديس ص/ 150 - 155. ط1. وزارة الشؤون الدينية بالجزائر. 1402