{أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس 62)
ويكثر مجيء النداء بعدها (26)؛ كقول الشمَّاخ:
ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ وقبلَ منَايا قدْ حَضَرْنَ وآجالِ (27).
الحرف الثاني: حرف الجواب (بلى)
وهو مكوَّنٌ من حرف العطف "بل" و"الألف" الزائدة، وإنَّما تركَّب مع "الألف" لأنَّه حرف جواب، وحقُّ حروف الجواب أن يوقفَ عليها؛ لأنَّها (نائبة عن جملة) (28)، ولمَّا لم يمكن الوقوف على "بل" لأنَّه حرف عطف، وحروف العطف لا يوقف عليها، تركَّب مع "الألف" للوقف (29)، هذا رأي الفراء (30) ووافقه ابن فارس (31)، ويستدلان على ذلك باستعمال العرب لهذا الحرف بعد النفي ليبطله، وكأنَّه رجوعٌ عنه كما أنَّ "بل" قد استعملته العرب "للإضراب" الذي هو: الإعراض والصرف والعدل (32)، وكلُّها تؤدي معنى الرجوع، يقول الفراء: (أصلها كان رجوعاً محضاً عن الجحد إذا قالوا: ما قال عبد الله بل زيد، فكانت "بل" كلمة عطفٍ ورجوعٍ لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفاً يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعاً عن الجحد فقط، وإقراراً بالفعل الذي بعد الجحد، فقالوا "بلى" فدلَّت على معنى الإقرار والإنعام، ودلَّ لفظ "بل" على الرجوع عن الجحد فقط) (33) ويوضِّح ابن فارس المهمة التي قامت بها "الألف" سوى أنها زيدت لكي يوقف عليها بقوله: (تقول: بلى، والمعنى أنَّها "بل" وُصِلت بها ألفٌ تكون دليلا على كلام، يقول القائل: أما خرج زيد؟ فتقول: بلى، ف "بل" رجوعٌ عن جحد، و"الألف" دلالةُ كلام، كأنَّك قلت: بل خرج زيد) (34)، وهذا من أثر التركيب على هذا الحرف.
الحرف الثالث: حرف التشبيه (كأنَّ)
وقد عدَّ ابن جني (35) تركيبَ هذا الحرف من صور إصلاح اللفظ التي عقد لها بابا في كتابه " الخصائص" أسماه (بابٌ: في إصلاح اللفظ)، يقول: (ومن إصلاح اللفظ قولهم: كأنَّ زيدا عمرو، اعلم أنَّ أصل هذا الكلام: زيد كعمرو، ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه "إنَّ" فقالوا إنَّ زيدا كعمرو، ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه فقدَّموا حرفه إلى أول الكلام عنايةً به، وإعلاماً أنَّ عقد الكلام عليه، فلمَّا تقدَّمت الكاف وهي جارة لم يجز أن تباشر "إنَّ" لأنَّها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل، فوجب لذلك فتحها، فقالوا: كأنَّ زيدا عمرو) (36).
وبعد أن تقدَّمت (الكاف) وتركَّبت مع (إنَّ) استغنت عمَّا كانت تتعلَّق به (37)، فلم تعدْ تتعلَّق بشيء، وهذا أوَّل تغييرٍحصل لها بسبب "التركيب" أمَّا التغيير الآخر: فإنَّ معنى التشبيه الذي كانت تؤدِّيه اختلف! ويوضِّح هذا الاختلاف ابن يعيش بقوله: (فإن قيل: فما الفرق بين الأصل والفرع في "كأنَّ "؟ - قيل: التشبيه في الفرع أقعد منه في الأصل؛ وذلك إذا قلت: زيد كالأسد، فقد بنيت كلامك على اليقين ثم طرأ التشبيه بعدُ، فسرى من الآخِر إلى الأول، وليس كذلك في الفرع الذي هو قولك: كأنَّ زيداً أسد؛ لأنَّك بنيت كلامك من أوله على التشبيه) (38)، ويؤكِّد ابن جني الرأيَ القائل بأنَّ هذا التغيير سببه "التركيب" بقوله: (فهذا يدلُّك على أنَّ الشيئين إذا خُلطا حدث لهما حكمٌ ومعنى لم يكن لهما قبل أن يمتزجا) (39).
الحرف الرابع: حرف الاستدراك (لكنَّ)
وهو حرفٌ ينصب المبتدأ ويرفع الخبر؛ لأنَّه كغيره من الحروف الناسخة قد أشبه الفعل في لفظه ومعناه (40)، وبهذا علَّل النحاة إعمال هذا الحرف إلاَّ الفراء فقد ردَّ سببَ إعماله إلى مسألة "التركيب"؛ يقول: (وإنَّما نصبتْ العرب بها إذا شدِّدت نونها لأنَّ أصلها: إنَّ عبدَ الله قائم، فزيدت على (إنَّ) لامٌ وكاف فصارتا جميعا حرفا واحدا، ألا ترى أنَّ الشاعر قال: ولكنَّني من حبِّها لكميد فلم تدخل اللامُ إلاَّ لأنَّ معناها "إنَّ") (41).
ولو وافقناه على رأيه (42)، وقلنا إنَّ أصل هذا الحرف (إن) التوكيدية قد تركَّبت مع "اللام" و" الكاف" الزائدتين، فماذا أحدث هذا التركيب ل " إنَّ" من تغيير؟ لقد أزال معنى " التوكيد" عنها تماماً، وأصبحت تدلُّ على معنًى لم يكن لها أبداً، وهو معنى "الاستدراك" الذي يُعرِّفه ابن هشام بقوله:
¥