العرب في القرآن 2

ـ[يوسف بن علي]ــــــــ[20 - عز وجلec-2010, مساء 01:54]ـ

نقلا عن مجلّة الشّهاب في جُزئها الثاني من المجلّد الخامس عشر , الصّادر في غُرّة صفر 1358 هجريّة الموافق ل 23 مارس 1939 للميلاد:

أيّها الإخوان: جعلنا عُنوان الخطاب << العرب في القرآن >> وقُلنا في أوّل كلمة منه أنّ العناية بالعرب حقّ على كلّ مسلم لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام , فما هو حظّ العرب من القرآن من النّاحية التّاريخيّة بعد أن سمعتم هذه التّوجيهات العامّة.

العرب مظلومون في التّاريخ فإنّ النّاس يعتقدون ويعرفون أنّ العرب كانوا همجا لا يصلحون لدُنيا ولا دين حتّى جاء الإسلام فاهتدوا به فأخرجهم من الظّلمات إلى النّور , هكذا يتخيّل النّاس العرب بهذه الصّورة المشوّهة ويزيد هذا التّخيّل رُسوخا ما هو مُستفيض في آيات القرآن من تقبيح ما كان عليه العرب ليُحذرنا من جاهليّة أخرى بعد جاهليّتهم. والحقيقة التي يجب أن أذيعها في هذا الموقف هي أنّ القرآن وحده هو الذي أنصف العرب والنّاس بعد نُزول القرآن قصّروا في نظرتهم التّاريخيّة إلى العرب فنشأ ذلك التّخيل الجائر عن القصد , والتّاريخ يجب أن لا ينظر من جهة واحدة بل ينظر من جهات مُتعدّدة وفي العرب نواح تُجتبي ونواح تُجتنب , وجهات تُذمّ وتُقبّح وجهات يُثنى عليها وتُمدح وهذه هي طريقة القرآن بعينها , فهو يعيب من العرب رذائلهم النّفسيّة كالوثنيّة ونقائصهم الفعليّة كالقسوة والقتل , ويُنوّه بصفاتهم الإنسانيّة التي شادوا بها مدنيّاتهم السّالفة واستحقّوا بها النّهوض بمدنيّة المدنيّات.

ولنذكُر عادا فهي أمّة عربيّة ذات تاريخ قديم ومدنيّة باذخة ذكرها القرآن فذكرها بالقوّة والصّولة وعزّة الجانب ونعى عليها الصّفات الذميمة التي تنشأ عن القوّة , قال تعالى: (<< وأمّا عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشدّ منّا قوّة , أولم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة >>).

فالنّظرة التّاريخيّة المُجرّدة في هذه الآية وفيما ورد في موضوعها تُرينا أنّ عادا بلغت من القوّة والعظمة مبلغا لم تبلغه أمّة من أمم الأرض في زمنها حتّى أنّ الله جلّ شأنه لم يتحدّ قولهم: من أشدّ منّا قوّة إلاّ بقوّته الإلهيّة التي يُذعن إليها كلّ مخلوق ولو كانت في أمم الأرض إذ ذاك أمّة أقوى منهم لكان الأبلغ أن يتحدّاهم بها , وإنّ أمّة تقول هذه الكلمة بحالها أو مقالها لهي أمّة مُعتدّة بقوّتها وعظمتها , ومن هذه الآية وحدها نستفيد أنّ عادا كانت أشدّ الأمم قوّة وأنّها ما بلغت هذه الدّرجة من القوّة إلاّ بمُؤهّلات جنسيّة طبيعيّة للملك وتعمير الأرض وأنّ تلك المؤهّلات فيها وفي غيرها من شُعوب العرب هي التي أعدّتهم للنّهوض بالرّسالة الإلهيّة , وإنّ القرآن لا يُنكر عليهم هذه المؤهّلات وإنّما يُنكر عليهم لوازمها ولا يُنكر عليهم القوّة والعظمة وإنّما يُنكر عليهم أن يجعلوها ذرائع للباطل والبغي ومُحادّة الله بدليل قوله لهذه الأمّة: ويزدكم قوّة إلى قُوّتكم , فهو يضمن لهم أنّهم إن آمنوا وعملوا الصّالحات يزيد قوّتهم تمكينا وبقاء , ومُحال أن يُنكر القرآن على النّاس القوّة وهو الدّاعي إليها والمُنفر من الضّعف وإنّما شرع القرآن بجنب الدّعوة إلى القوّة أن تكون للحق وللخير وللرّحمة والعدل.

وكذلك قوله تعالى: (<< أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون ـ ـ وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون ـ ـ وإذا بطشتم بطشتم جبّارين ـ ـ فاتّقوا الله >>) فإنّ هذه الآية ــ زيادة عن إفادتها لمعنى ما قدّمناه ــ تكشف لنا نواح من تاريخ هذه الأمّة العربيّة ومبلغ مدنيّتها وتعميرها فهي تدلّ على أنّهم كانوا بُصراء بعلم تخطيط المدن والأبنيّة وهو علم لا يستحكم إلاّ باستخدام الحضارة في الأمّة ومأخذ هذا من قوله: بكلّ ريع , والآية في قوله آية هي بناء شامخ يدلّ على قوّتهم أو هي آية هادية للسّائرين وهي على كلّ حال بناء عظيم يدلّ على عظمتهم وقُوّتهم وما زالت عظمة البناء تدلّ على عظمة الباني. ولم يُنكر عليهم نبيّهم نفس البناء الذي هو مظهر القوّة وإنّما أنكر عليهم الغاية المقصودة لهم من ذلك البناء الشّامخ فمحطّ الإنكار قوله: تعبثون , ولا شكّ أنّ كلّ بناء شامخ لا يكون لغاية شريفة محمودة فهو عبث ولهو وباطل. والمصانع يقول المُفسّرون أنّها

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015