مثال ذلك: الماء والثلج. فالثلج حالة من حالات الماء ولو قال رجلٌ (ما هو ثمن الثلج) فهل يقدِّر أهل البصرة العبارة على أنّها: (ما هو ثمن الماء الثلج؟). فكذلك الحصيد هو حالة من حالات الزرع العديدة وليس هو الزرع ولا هو الحَبّ. فكلُّ حصيدٍ كان زرعاً وليس كلُّ زرعٍ حصيد.
لقد اختلفوا فيما يجب أنَّ يتفقوا عليه، واتّفقوا على ما لا أصل له، وهو إضافة الشيء إلى نفسه، فقال الكوفيون بجواز الإضافة ومنعها البصريون الذين لمَّا أسقط في أيديهم قدّروا محذوفاً، لأنَّهم اتّفقوا على وجود ما يسمى بـ (الشيء ونفسه).
فاتّفاقهم على (أنَّ الحصيد هو الحَبُّ في المعنى وإن اختلفا في اللفظ) هو أساس المشكلة، وهو سبب ظهور المسألة التي لا وجود لها في لغات العالمين إلاَّ في أذهان النحويين.
فانظر أخي إلى الحصيد في القرآن لتعلم ما هو:
((ذَلِكَ من أنبَاءِ الَغيبِ نَقُصُّهُ عَلَيكَ مِنهَا قَائِمٌ وَحَصِيد)) هود 100
فعلى جميع الاحتمالات الممكنة لهذه الآية فالمؤكّد أنَّ الحصيد فيها لا علاقة له بالزرع والحبّ المذكورين عندهم.
وقولهم أنَّ الحصد للزرع لا للحبّ أشنع، لأنَّهم ظنّوا أنَّ (الحصدَ) هو تلك العملية الميكانيكية لقطع أصول الزروع بالآلة، فحصروا أنفسهم في دائرة الاصطلاح الضيّق. فانظر بعين النباهة إلى هذا التناقض.
لو كان الحَصْدُ للزرع كما زعموا لَما قال يوسف (ع):
((فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ)) يوسف 47
فالحصْدُ في هذه الآية قد أصبح للحَبِّ الذي يتوجَّب أنْ يُترَكَ في سنبله، إذ لا يمكن ترْكُ الزرع في السنبل حين الحصاد والسنبل جزءٌ من الزرع!!
ألا ترى معنا أنَّ تلك القواعد تحجِّم المفردة وتقتل اللغة وتؤدّي إلى الالتباس؟
فإن جادلوك فسألهم لِمن يعود الضمير في (فذروه) الوارد في الآية هذه؟ هل هو للحَبّ أم للزرع الذي لم تذكره الآية كمفعولٍ لـ (حصدتم) فإن قالوا: (يعود للزرع)، فإن الزرعَ لا يحفظ في السنبل حيث أن السنبلَ جزءٌ منه، وإن قالوا: (يعود للحَبّ)، فهو المطلوب.
إنَّ القرآن بعيدٌ عن مصطلحاتهم وبعيدٌ عن المعاني التي في أذهانهم، لأَنَّه يستعمل المعنى (الجذري) (1) للمفردة. فالحصْدُ في القرآن هو (أخذ الثمرة النهائية للاحتفاظ بها إلى حين) وهو معنى له مصاديقٌ سواء كانت زرعاً أم أمماً أم غيرهما. فإذا أهلك الله تعالى أمَّةً أخذ نفوسهم وترك آثارهم وبهذا يصبحون حصيداً، مثلما يجني الزُرّاعُ الثمار ويتركون آثار الزرع مهما كانت الوسيلة المتخذة لهذا الجني والجمع، وهذا ما في قوله تعالى بشأن الأمم الهالكة:
((فَمَا زَالَت تِلكَ دَعوَاهم حَتّى جَعَلْنَاهُم حَصيداً خَامِدين)) الأنبياء 15
ومن هذا كلّه نفهم أنَّ قول يوسف (ع) في الشاهد الذي جاء به البصريون يبقى هو الآخر عينه بلا تقدير، وشرحه هو: (ما حصدتم (من الحَبّ) فذروه في سنبله لأَنَّه أحفظ له).
أما قوله تعالى: ((وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي)) القصص 100 فإنَّ كلّ مفردةٍ منسوبةٍ للجهات هي مكانٌ قطعاً، ولا يمكن أنَّ تكون شيئاً آخر مثل شرقي أو جنوبي أو غربي ولو مع التسليم بالمعنى الاصطلاحي. فلو قال القائل: (ارحلوا إلى المسكن الشرقي) فلا أحد يسعه أنَّ يزعم أنَّ التقدير هو (ارحلوا إلى "مكان" المسكن الشرقي)، لأنَّ المكانية لازمت العبارة من أولها إلى آخرها. فقوله تعالى (وما كنت) يفهم منه الظرف المكاني والزماني سويةً، وقوله (بجانب) فإنَّه مكان. وقوله (الغربي) هو تحديد لجهة المكان وموقعه. فكيف إذن قدّروا الآية على أنّها (وما كنت بجانب المكان الغربيِّ) وأنَّ لفظ (المكان) حُذِفَ لدلالة ما في الجملة عليه؟ فمن هو الذي رآه مرّةً موجوداً حتى يراه الآن موجوداً؟ وما هو معنى التقدير والحذف إذا كان هناك ما يدلّ أصلاً على المحذوف؟!!.
على هذا المنطق يصحّ كمثال أنَّ يدخلَ النحوي على موظفٍ حكومي فيقول له: (من أنت؟) فيقول له: (أحمد)، فيقول النحويّ: (فأين زيدٌ؟) فيجيبه: (لا أعرف أحداً بهذا لاسم هنا) فيردّ النحوي عليه قائلاً: (بلى .. أنت رجلٌ جاهلٌ بالنحو، وزيدٌ أي شخصٍ آخرٍ غيرك كان يمكن أنَّ يكون بديلاً عنك أو معك، ولكن بما أنَّ "الدائرة" لم تستغنِ عنك بعد ولم تحتج إلى رجلٍ اسمُهُ "زيدٌ" فسوف أوافق على أن اسمّيك أحمداً!!)
¥