2. قوله تعالى: ((وَلَدَارُ الآخرةِ خَيرٌ)) يوسف 109، النحل 30. لفظ (الدارُ) يصدق على أيّة دارٍ، ولفظ (الآخرة) هو صفةٌ لا تصدق على الدار وحدها، بل على أي موضوعٍ له أولى وآخرة وبداية وغاية. و (الآخرة) المعرّفة بأل التعريف في االقرآن الكريم هي آخرة الوجود كله وهي مطلقة المعنى ومعلومة، وإضافة الدار إليها إنَّمَا هو لتعريف الدار. فليست الدار والآخرة شيئاً واحداً في المعنى. يدلّنا على ذلك استعمالات القرآن للفظي (الدار) و (الآخرة)، مثل قوله تعالى: ((وَ الآخرةِ خَيرٌ وَأبقَى)) الأعلى 17، حيث جاءت بمفردها. ومثل قوله تعالى: ((سَأُرِيكُم دَارَ الفَاسِقِين)) الأعراف 145، حيث أُضيفت لفظة (الدار) إلى لفظ آخر، والمعنيُّ بها دارَهُم الأولى لا الآخرة كما يدلّ عليه النظام. وكذلك قوله تعالى: ((فَخَسَفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ)) القصص 81، فداره هنا هي مسكنه وما تبعه مما يدور عليه أمر حياته، وليست هي آخرته.
3. أمَّا استشهادهم بقوله تعالى ((وَلَلدَارُ الآخرةِ خَيرٌ)) الأنعام 32، لإفادة تقدير الآية الأولى على أسلوب الثانية، فقد عدَّه المنهج كبوة اخرى، لأنَّ هذا التركيب يتحدّث عن قضيةٍ أخرى غير تلك، وفيها من الإعجاز ما يبهر العقول ويحيّر الألباب ويكشف عن أسرارٍ من غوامض هذا النظام القرآني الصارم، ولكن شرحها يطول لذلك فإنّها ستأتي في موضعها واضحةً وظاهرةً ظهور الشمس في رائعة النهار إن شاء الله تعالى ان يبقينا على قيد الحياة.
4. قوله تعالى ((جَنّاتٍ وَحَبِّ الحَصيد)) ق 9، وقوله تعالى: ((وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغَربِيّ)) القصص 41، فالأمر فيهما كذلك، إذ الحصيد صفةٌ للحَبِّ وليس هو الحَبَّ نفسه، ولو تدبّروا القرآن لوجدوا هذه الصفة تطلق على أشياء أخرى كما سيأتيك.
وزعمهم أنَّ (الجانب) و (الغربي) واحدٌ هو أكثر غرابةً لأنَّ لفظ (جانب) سيظلّ مجهولاً ما لم يُضَف إلى جهةٍ من الجهات، فإضافته إلى جهةٍ معلومةٍ قد جعلت من هذه الجهة في عين الوقت صفةً له، وفيه إشارةٌ لطيفة ولكن ما أبعدهم عنها!.
دحض جواب البصريين
وإذا كان رأي الكوفيين بهذه الغرابة، فإنَّ ردَّ البصريين أغربُ وأعجبُ حيث قالوا على ما في نصّ الأنباري المذكور سابقاً:
(أمَّا الجواب عن كلمات الكوفيين: .. أمَّا ما احتجوا به فلا حجّة لهم فيه لأَنَّه كلّه محمولٌ على حذف المضاف إليه وإقامة صفتِهِ مقامَه: أمَّا قوله تعالى ((إنَّ هَذا لَهُو حَقُّ اليَقِين))، فالتقدير فيه "حق الأمر اليقين" وهو مثل قوله تعالى ((وَذلِكَ دِينُ القَيِّمَة)) البينة 5، أي دين الملّة القيمة. وأمَّا قوله تعالى ((وَحَبَّ الحَصيد)) أي " حبّ الزرع الحصيد"، ووصف الزرع بالحصيد هو التحقيق لأنَّ الحصد للزرع لا للحب). انتهى جواب البصريين.
نسأل: هل تستلزم إجابة البصريين هذا التقدير المتعسّف بعدما رأيت أنَّ حجة الكوفيين ما هي إلاَّ سفسطة؟.
لقد رأينا في ما سبق أنَّ (تقدير محذوفٍ) ما هو إلاَّ (تفسيرٌ بالرأي)، لأنَّ المعنى سوف يتحدّد بهذا المحذوف الوهمي. فما أدراهم أنَّ التقدير هو (دين الملّة القيمة) وليس (دين الملّة القيمة) مثلاً؟ وما أدراهم أنَّ التقدير (دار الساعة الآخرة) وليس (المِلّة الآخرة) مثلاً؟
لقد أوضحنا قبل قليل أنَّ اليقين هو درجةٌ معرفيةٌ، وأنّ إضافة قضيةٍ ما لها كـ (العلم) في قوله تعالى ((كلاَّ لَو تَعلَمُونَ عِلمَ اليَقين)) التكاثر 5، أو (الحقّ) كما في الآية موضوع البحث هو لأجل إكساب تلك القضية من حقٍّ أو علمٍ درجةَ اليقين، فلا ضرورة لتقدير محذوفٍ من مثل (أمر) لأنَّ كلّ شأن وموضوعٍ هو أمر من الأمور أو شيء من الأشياء .. فكأنّهم لا يدافعون عن اللغة نفسها ولا عن القرآن، إنَّمَا يدافعون عن رأيهم (بعدم الجواز). ولمَّا لم يجدوا إجابةً احتالوا بأن قدّروا لفظاً بين لفظي حق ويقين هو اللفظ (أمر)، وهكذا فعلوا في بقية الموارد.
وقولهم أنَّ (حبَّ الحصيد) تقديره هو (حبّ الزرع الحصيد) أغرب من ذلك كلّه. لأنَّ الحصيد إذا أُطلِقَ على مسمىً ما فقد أخرجه هذا الإطلاق من حالته الأولى إلى حالةٍ أخرى فهو إذن شيء آخر غير المسمّى، هذا إذا سلَّمنا بأنَّ الحصيد لا يكون إلاَّ من الزرع، فكيف إذا لم يأذن لنا القرآن بهذا التسليم؟.
¥