و نلاحظ في مقابل ذلك أنه عندما تخرج الروح من جسم حي فإن التركيب المادي لذلك الجسم يتبدل و يعود إلى حالته الأولى التي كان عليها قبل أن تدخل فيه الروح. فإن كان أصله من تراب، مثل الإنسان، عاد وتحول إلى تراب. وإن كان أصله من نار، مثل الجني، عاد و تحول إلى نار تحترق، و إن كان أصله من ذهب وفضة، مثل عجل السامري، عاد أيضا إلى أصله.
وقد علمنا من الدليل الأول أن النفس يتوفاها الله سبحانه و تعالى فتخرج من الجسد عند النوم ثم تعود إليه عند اليقظة. ولكننا نلاحظ أن دخولها و خروجها صباحا و مساء كل يوم لا يحدث أي تغيير في طبيعة الجسد ومعنى ذلك أنها ليست هي الروح.
و نستطيع أن نستفيد من هذه المعلومة و نستعين بها في حل الإشكال الذي نجده في كتب التفسير حول كيفية موت عجل السامري.
في العدد السابق، عرض الكاتب الجزء الأول من كتاب (ماهية النفس) للباحث / أحمد كرار أحمد الشنقيطي ـ السودان، وذكر فيه نظرة علم النفس وقدماء الفلاسفة وفقهاء المسلمين حول تركيبة الإنسان، فيما أسماه النظرة الأحادية والثنائية للإنسان، ثم عرض ما توصل إليه الباحث من أن الإنسان ثلاثي التركيب. . جسم. . . ونفس. . . وروح. مقدما بين يدي ذلك خمس من الأدلة على هذا القول. ويكمل الكاتب تقديمه لهذا البحث القيم فيقول:
وهذه بعض الأمور التي مثلت إحدى المعضلات عند كلِّ من تكلم في الروح والنفس، والموت، وعذاب القبر ونعيمه، تبين صحة ما ذهب إليه الباحث، أعرضها باختصار كدليل على صحة النظرة الثلاثية.
أولها تحت هذا السؤال:
تموت النفس أم لا تموت؟
بنص القران الكريم تموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء: من الآية 35]
وهناك آيات أخرى تتكلم بأن نفرا ممن يموتون أحياء (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) [البقرة: 154] {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]
ونعيم الناس .. . كل الناس وعذابهم بعد الموت ثابت لا شك فيه. وهذا يعني أن هناك حياة فيها تلذذ بالنعيم، وعذاب أليم.
فكيف؟
أصحاب النظرة الثنائية، الذين تكلموا بأن الإنسان نفس وروح فقط وقفوا في حيرة عجيبة، وعرضوا سؤالا: الموت للبدن وحده أم للنفس (التي هي الروح عندهم) والبدن معا؟
وتكلموا جميعهم، وطال كلامهم فطائفة قالت: الأرواح تذوق الموت لأنها نفس والله يقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء: من الآية 35] والله يقول: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 27]. والملائكة تموت فمن باب أولى النفس.
وطائفة قالت: لا تموت الأرواح فقد خلقت للبقاء و إنما تموت الأبدان. واستدلوا بما ورد في نعيم القبر وعذابه، واشتد الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ فقال: "كل من يقول إن الروح يموت ويفنى فهو ملحد."
وخطَّ ابن القيم طريقا وسطا بين الطائفتين محاولا التوفيق فقال: (موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها و خروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، و إن أريد أنها تعدم و تضمحل و تصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا الاعتبار بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب)
فالخلاصة أنهم يقولون أن النفس تموت حتما بنص القرآن و لكنها في الحقيقة لا تموت بالمعنى المعروف للموت. بل إن موتها هو مجرد انتقالها من مكان إلى مكان.
وهذا الكلام مردود لأن موت الشيء ليس هو مجرد حدوث تغير في المكان بل هو حدوث تغيرات جذرية في خصائص الشيء ذاته وهذه التغيرات هي التي تميز بين الشيء الحي و الشيء الميت.
هم في حيرة وعجز عن اتخاذ موقف حاسم في هذا الصدد. فلا يمكنهم القول بأن النفس تموت حقيقة لأن النفس عندهم هي الروح و الروح من أمر الله و لذلك فهي لا تموت. ولا يمكنهم القول بأن النفس تموت حقيقة لأن يتعارض مع صريح القرآن وصحيح السنة النبوية المطهرة. و هي إذا قالت أن النفس لا تموت تكون قد أخطأت لأن ذلك يخالف نص القرآن.ولذلك كانت النظرة الثنائية مضطرة إلى البحث عن حل وسط يقع في منتصف الطريق بين القولين الصحيحين و كأنه يوفق بينهما.
¥