إذا عُلِمَ هذا بان أنَّ عمومَ البدلِ شُيوعٌ، وهو عموم النكرة، وأنَّ عمومَ الشمول استغراقٌ، وهو عمومُ ألفاظ العام، ولا تَرَادُفَ بينهما، بل بينهما عمومٌ وخصوصٌ.
الوجه الثالث: لو سُلِّمَ بدلالة الْمعرف بـ (أل) الْجنسية على الشيوع ـ فإنَّه شيوعٌ مقيدٌ؛ لِمخالفته لِمعنى الشيوع الْمطلق، فهذا شيوعٌ شامل لِجنسه، وشيوع الْمطلق بدليٌ يدل على فردٍ منتشرٍ في جنسه.
الوجه الرابع: جَرَيان الأحكام اللفظية النحوية على المعرف بـ (أل) الجنسية من صلاحية كونه مبتدأً بلا خلافٍ، وصحة مجيء الْحال منه، وتعداده في عداد الْمعارف، وغير ذلك مِن أحكامه دليل على كونه معرفة معنىً كغيره من الْمعارف؛ إذْ كيف يقع موقعها، ويَحُوزُ رتبتها، ومعناه مُخالف لِمعناها، ثُمّ إِنَّ الأحكام النحوية لا تُبنى على اللفظ دون المعنى، بل هما متلازمان.
الوجه الْخامس: أَنَّ جَعْلَ الْمُعَرَّف بـ (أل) الْجنسية معرفة لفظاً نكرة معنىً مُبطِلٌ لتقسيم الاسم إلى نكرة، ومعرفة، ويَجعل أقسام الاسم أربعة: ما هو نكرة لفظاً ومعنىً، وما هو نكرة لفظاً معرفة معنىً، وما هو معرفة لفظاً ومعنىً، وما هو معرفة لفظا نكرة معنىً، ولا قائلَ بهذا، وهو مُلْزَمٌ على جعل ابن مالك الْمعرف بـ (أل) الْجنسية معرفة لفظاً نكرة معنىً، مع أنه نفسه قال في التسهيل: (الاسم: معرفة، ونكرة) ().
فإذا رَجُحَ تعريف الْمُعَرَّف بـ (أل) الْجنسية معنىً ولفظاً فلْيُعْلَمْ أنَّ الأصوليين اختلفوا في استغراقه لجنسه على مذهبين:
المذهب الأول: أن المعرف بلام الجنس مفيد للاستغراق والْعُمُومُ، وَعليه جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ وَأَهْلِ اللُّغَة () ِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى إجْرَاءِ قَوْله تَعَالَى. (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]. وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}) [النور: 2].عَلَى الْعُمُومِ
المذهب الثاني: أن المعرف بلام الجنس لا يفيد الاستغراق، وهذا المذهب حكاه علاء الدين عبد العزيز بن احمد محمد البخاري الحنفي في كشف الأسرار عن بعض مشايخه المتأخرين، و أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ () في قوله: ((فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُرَادٌ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَلْ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.)) ()، وهو مذهب القائلين بأنَّ المعرف بلام الجنس معرفةٌ لفظاً ونكرةٌ معنىً؛ لإرادتهم البعضية فيه.
الراجح ـ والله أعلم ـ من هذين المذهبين هو مذهب القائلين بدلالة المعرف بلام الجنس على الاستغراق للأدلة المتقدمة في ترجيح كونه معرفة معنى ولفظاً فلْتُتَأَمَّل.
فإذا رَجُحَت دلالة المعرف بلام الجنس على الاستغراق فلْيُعلَم أنّ العلماء اختلفوا في اللام الدالة على العهد الذهني بناء على اختلافهم في دلالة المعرف بلام الجنس هل هي دلالة عموم وشمول، أم هي دلالة شيوع بدلي موافق لمعنى النكرة، وسر ذلك أن مصطلح (العهد الذهني) اصطلاح بلاغي في معنى المعرف بلام الجنس، ودليل هذا قول ابن عاشور في التحرير والتنوير عقب قول الله جل وعلا: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7]: ((فالتعريف في قوله: {اليَمّ} هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة.)) ()
فإذا علمت هذا بان لك أنه لا فرْقَ بين لام الجنس، ولام العهد الذهني؛ لتردافهما غير أنّ الأول اصطلاح نحوي أصولي، والثاني اصطلاح بلاغي.
¥