المذهب الثاني: أنه معرفةٌ لفظاً ونكرةٌ معنىً، وقد حكاه النَّحَّاس عن بعضهم فقال: ((سبيل الألف واللام أنْ يدخلا في النكرة فلا يُغَيَّرُهَا عن حالها)) ()، وصرَّح به ابن مالك في شرح التسهيل بقوله: ((فإِنَّه مِن قبل اللفظ معرفة، ومِنْ قبل الْمعنى نكرة لشياعه.)) ().

والراجح ـ والله أعلم ـ مذهب مَنْ قال: إنَّه معرفة معنىً ولفظاً مِن عدة أوجه:

الوجه الأول: أنَّ قولَ النحاة: إِنَّ (أل) حرف تعريف عام لِمعانيها، ومِن تلك الْمعاني دلالتها على الْجنس؛ لأنه يراد بها تعريف الْجنس وتَمييزه عن غيره مِنَ الأجناس، وقد تقدّم أنّ ذلك تعيينٌ.

ويؤيد ذلك قول علاء الدين البخاري الحنفي () الأصولي في كتابه كشف الأسرار: ((وَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ لُغَةً وَالتَّعْرِيفُ يُحَصِّلُ تَمْيِيزَ الْمُسَمَّى عَنْ أَغْيَارِهِ وَهُوَ تَارَةً يَكُونُ تَمْيِيزَ الشَّخْصِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْخَاصِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ النَّوْعِ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا التَّعْرِيفُ إلَّا بَعْدَ سَبْقِ عَهْدٍ بِهَذَا الشَّخْصِ ذِكْرًا أَوْ مُشَاهَدَةً، وَتَارَةً يَكُونُ تَمْيِيزَ النَّوْعِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ الْمُسَاوِيَةِ لَهُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْجِنْسِ كَمَا يُقَالُ مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ غَيْرُ مَخُوفٍ فَهَذَا الْأَسَدُ مَخُوفًا فَإِنَّ اسْمَ الْأَسَدِ وَاقِعٌ عَلَى كَمَالِ نَوْعِهِ لَا عَلَى شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِهِ لِانْعِدَامِ سَبْقِ الْعَهْدِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَبْلَغُ مِنْ التَّعْرِيفِ لِلشَّخْصِ لِبَقَاءِ الِاشْتِرَاكِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ فِي التَّسْمِيَةِ فِي تَعْرِيفِ الشَّخْصِ وَانْقِطَاعِ ذَلِكَ فِي النَّوْعِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالِاسْمِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ.)) ()

الوجه الثاني: اتفاق الأصوليين على كون الْمعرف بـ (أل) الْجنسية من ألفاظ العموم، ولا دلالة له على العموم إلا باستيعابه لِجميع أفراد جنسه دفعة واحدة، وهو على هذا مناقضٌ لِمَعْنَى النكرة؛ لأنَّ عمومَها بدليٌ، وألفاظ العموم عمومها استيعابي شمولي.

فكلا المعنيين اللغوي والاصطلاحي لـ (العام) عند الأصوليين الذي تقدم آنفا يدل على استغراقه وشموله لجميع أفراد جنسه دفعة واحدة بعكس النكرة فهي تدل على فردٍ ما منتشرٍ في جنسه.

فشتان بين معنى مصطلح (النكرة)، ومعني مصطلح (العام)، فالمصطلح الأول يدل على الشيوع المنتشر في جنسه، والمصطلح الآخر يدل على الشمول المستغرق لجنسه؛ ولذا فالأوْلَى أن يُطلقَ على (النكرة) معنى الشيوع؛ لدلالته على الانتشار في الجنس لغةً واصطلاحاً، وأنْ يُطلَقَ على معنى (العام) العموم؛ لدلالته على الشمول لجنسه لغة واصطلاحاً.

ولكن سَمَّى بعضهم شيوع النكرة عموماً، كقول ابن السراج: ((كل اسم عم اثنين فما زاد فهو نكرة)) ()،وكقول عبدالقاهر الجرجاني: ((النكرة ما عَمَّ شيئين فأكثر)) () فالتبسَ ذلك على بعضهم فخلطوا بين مثلِ قول ابن السراج، والجرجاني، وبين عموم (العام) ـ مِما اضطر بعض العلماء إلى التفريق بين عموم (النكرة)، وعموم (العام).

فقد نبَّهَ أبوحيان النحوي الأندلسيّ على ذلك فقال في البحر المحيط: ((وتنكير (مرَضٌ) مِن قول الله جل وعلا: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) لا يدل على أنَّ جميع أجناس الْمرض في قلوبهم، كما زعم بعض الْمفسرين؛ لأنَّ دلالةَ النكرة على ما وُضِعَتْ له إنَّما هي دلالة على طريقة البدل؛ لأنها دلالة تنتظم كل فرد على جهة العموم)) () عقب قول الله سبحانه: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:10]

ومن ذلك ـ أيضا ـ قول الشوكاني في إرشاد الفحول: ((والفرق بين عموم الشمول وعموم البدل أنَّ عمومَ الشمول كُلِّيٌ يحكم فيه على كل فرد، وعموم البدل كُلِّيٌ مِنْ حيث إِنَّهُ لا يَمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، ولكن لا يحكم فيه على كل فرد، بل على فردٍ شائعٍ في أفرادِه يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة.)) ().

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015