وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولا ريْبَ أنّ مِن حفظ القرآن الكريم حِفظَ لغتِه التي نزل بها مِن كل لَحْنٍ وتَحريف، وقد يسّر الله جل وعلا لذلك جهابذةً قاموا بذلك خير قيام، ولا يَجوز مسايرة اللهجات فيما لَحَنَتْ فيه باسم التطور؛ لأنّ هذا مِن الإعانة على إفشاء اللحن في لغة القرآن الكريم.
يُعلمُ مِما تقدّم أن الْأَوْلَى عدم إدخالِ (أل) على (غير) وأشباهها؛ لأنّ أدلة مُجيزي ذلك إمّا مُتوهّمَة، أو مرجوحة، أو مُختَلَفٌ فيها، والسلامة الالتزام بِما ورد عن العرب في ذلك، وما سُمّيَ هذا العلم بـ (النحو) إلا لكون الْمراد منه قصد سَمْتِ العرب في طريقة كلامهم، ومن ذلك هذه المسألة، ثُم إنّ في إجازة ذلك تعارضاً للقياس مع السماع، والقاعدة عند العلماء أنه متى تعارضا قُدَّم السماع على القياس، قال ابن جني في الخصائص: ((بابٌ في تعارض السماع والقياس إذا تعارضا نطقت بالمسموع على ما جاء عليه ولم تقسه في غيره)) ([34])؛ لأنّ المسموع أقوى حجة؛ لنقله عن أصحاب اللغة؛ ولكون القياس يرِد فيه الوهم، والشك، والاختلاف بين العلماء، وزد على ذلك كونه في بعض المسائل قياساً مع الفارق، فأنت ترى أنّ النكرات المتوغلة في الإبهام ملازمة للإضافة لفظاً أو معنىً، ومِنْ ثَمّ فقياسها على نكرات غير متوغلة في الشيوع، وليست ملازمة للإضافة إنَّما هو من باب التكلف؛ لِمخالفتها لَها معنىً واستعمالاً.
ثُمّ إنَّ القاعدة عند العلماء أنّ المجمع عليه أولى من المختلف فيه، قال السيوطي في الاقتراح في علم أصول النحو: ((إذا تعارض مجمعٌ عليه ومختلَفٌ فيه، فالْأَوّل أوْلى.)) ([35])، وهذا ينطبق على الخلاف ـ هنا ـ؛ لأنّ من الْمجمع عليه أن الأصل عدم دخول اللام على (غير) وأمثالها؛ لأنها مِما لزم الإضافة، وعدم سماع نص مُحتجٍ به عن العرب يخالف ذلك يُؤيدُ ذلك، بينما دخول (أل) عليها مختَلفٌ فيه، وعلى ما نصت عليه هذه القاعدة فالأوْلَى تقديم الْمجمَعِ عليه، وهو امتناع (أل) من دخول هذه النكرات.
كما أنّ مِن قواعد العلماء أنّ ((مَن تَمَسَّك بالأصل خرج عن عهدة المطالبة بالدليل، ومَن عَدَلَ عن الأصل افتقر إلى إقامة الدليل؛ لعدوله عن الأصل، واستصحاب الْحال أحد الأدلة الْمعتبرة.)) ([36])، فـ (غير) وأمثالها الأصل فيها لزوم الإضافة لفظاً أو معنىً، ومَن ادعى مفارقتها لِهذا الأصل فليأتِ بدليلٍ عن العرب الْمحتج بكلامهم، وإلا وجب عليه التمسك بلزومها للإضافة، وامتنع من إدخال (أل) عليها.
حرره التلميذ: حامد الأنصاري
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) ـ الأصول في النحو:1/ 153.
([2]) ـ الكتاب:3/ 479.
([3]) ـ كالفراء في معاني القرآن:1/ 7، والطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن:1/ 77، ومكي في مشكل إعراب القرآن:1/ 72، والزمخشري في المفصل:117، وابن عطية في المحرر الوجيز:1/ 76، والعكبري في المتبع في شرح اللمع:2/ 403، وإملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات:1/ 8، وابن يعيش في شرح المفصل:1/ 502، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن:1/ 151، وابن القيم في بدائع الفوائد:2/ 263، والعيني في عمدة القاري:1/ 306، والشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي:1/ 212، والآلوسي في روح المعاني:1/ 94.
([4]) ـ مشكل إعراب القرآن:1/ 72.
([5]) ـ شرح المفصل:1/ 508.
([6]) ـ ألفية ابن مالك:51.
([7]) ـ التفسير الكبير:28/ 222.
([8]) ـ كسيبويه في الكتاب:3/ 479، والحريري في درة الغواص في أوهام الخواص:51، وابن يعيش في شرح المفصل:1/ 508، وأبي حيان في البحر المحيط:1/ 28، والفيومي في المصباح المنير:2/ 458، وابن عادل الْحنبلي في أحد قوليه في اللباب في علوم الكتاب:1/ 221، والخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل:1/ 52.
([9]) ـ الكتاب:3/ 479.
([10]) ـ شرح المفصل:1/ 508.
([11]) ـ حاشية الصبان:2/ 244.
([12]) ـ التفسير الكبير:28/ 222، وبِمثله قال ابن عادل في أحد قوليه في اللباب في علوم الكتاب:1/ 221.
([13]) ـ الكتاب:1/ 199 ـ 200.
([14]) ـ معاني القرآن للفراء:2/ 408.
([15]) ـ ينظر: البحر المحيط:1/ 113.
(4) ـ الكشاف:4/ 698.
([16]) ـ مغني اللبيب:1/ 78.
([17]) ـ الكشاف:1/ 154 ـ 155.
([18]) ـ ينظر: الكشاف:4/ 698.
([19]) ـ هو أبونزار الحسن بن صافي الملقب بملك النحاة (489 هـ ـ 568 هـ)، من شيوخه: عبدالقاهر الجرجاني، له: الحاوي في النحو، والمقتصد في التصريف. ينظر: معجم الأدباء:2/ 493، وبغية الوعاة:1/ 504.
([20]) ـ تهذيب الأسْماء واللغات للنووي:3/ 246.
([21]) ـ تهذيب الأسْماء واللغات:3/ 246.
([22]) ـ الصحاح:3/ 246.
([23]) ـ مواهب الجليل:2/ 291.
([24]) ـ تفسير القرآن العظيم:1/ 455.
([25]) ـ المعتمد:2/ 79.
([26]) ـ الاقتراح في علم أصول النحو:70.
([27]) ـ هو أَبوتَمّام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي (188هـ ـ 231 هـ)، أحد أمراء البيان، في شعره قوة وجزالة، واختلف في التفضيل بينه وبين المتنبي والبحتري. ينظر: الأغاني:16/ 414، ونزهة الألباء:109.
([28]) ـ الكشاف:1/ 119.
([29]) ـ خزانة الأدب:1/ 4.
([30]) ـ هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري الحنفي (979 هـ ـ 1069 هـ)، من تلاميذه: البغدادي صاحب خزانة الأدب، من تصانيفه: عناية القاضي وكفاية الراضي، وشرح درة الغواص في أوهام الخواص. ينظر: كشف الظنون:1/ 699، وهدية العارفين:1/ 160.
([31]) ـ الضمير عائد على (غير).
([32]) ـ حاشية الشهاب:1/ 217.
([33]) ـ ينظر: درة الغواص في أوهام الخواص:51.
([34]) ـ الخصائص:1/ 117.
([35]) ـ الاقتراح في علم أصول النحو:194.
([36]) ـ الإنصاف في مسائل الخلاف:1/ 300.
¥