الدليل الثالث: الاستناد إلى قول العلماء
عُلِمَ أنّ بعض العلماء منع دخول (أل) على (غير)، ولكن بعضهم وإن منع ذلك لَم يلتزم بذلك، وبعضهم أجاز ذلك إما بفعله، وإما بقوله اعتماداً على مَجموع الأدلة السابقة، أو على واحدٍ منها.
فالناظر في مصنفات العلماء في مختلف فنون العلم يَجد أنهم أدخلوا (أل) على (غير)، إلا أنه قليل عند علماء اللغة، كثير عند غيرهم، فمثال مَجيئه في معاجم اللغة ما جاء في الصحاح: ((الوَسيلَةُ: ما يتقرَّب به إلى الغير)) ([22])، ومثال مَجيئه في كتب الفقه ما جاء في مواهب الجليل: ((تعيّن ذلك الغير لأجله)) ([23])، ومثال مَجيئه في كتب التفسير ما جاء في تفسير ابن كثير: ((كأكل مال الغير للمضطر)) ([24])
، ومثال مَجيئه في كتب أصول الفقه ما جاء في الْمعتمد: ((حكاية عن الغير)) ([25]).
وما تقدّم إيراده إنّما هو من باب ضرب المثال لا الْحصر، وإلا فالأمثلة أكثر مِن أن تُحْصَى، وهنا مسألة مفادها هل يجوز الاستشهاد بكلام العلماء في اللغة أم لا؟
وللجواب عن ذلك يُقال ظاهر قول السيوطي: ((أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام الْمُولِّدين والْمُحْدِثِين في اللغة والعربية.)) ([26]) يُفهم منه الإجْماع على عدم الاحتجاج بكلام المولدين، كما يُفهَم منه دخول العلماء في ذلك؛ لكونهم في عصور الْمولدين، لكن في الكشاف ما يقتضي جواز الاستشهاد بكلامهم في اللغة، قال الزمَخشري: ((وجاء فِي شعر حَبِيب بن أَوْس ([27]) ... وهو وإن كان مُحدثاً لا يُستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية فاجعل ما يقوله بِمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الْحماسة فيقتنعون بذلك؛ لوثوقهم بروايته وإتقانه.)) ([28]).
قول الزمخشري ـ هذا ـ جعله بعضهم دليلاً على جواز الاستشهاد بكلام العلماء وإن كان مخالفاً لقواعد العربية، والراجح ـ والله أعلم ـ عدم قوة ذلك؛ لأنّ في قول الزمخشري: (فاجعل ما يقوله ِبمنزلة ما يرويه) ما يدل على أنَّ ما يقوله العالِم الأصل فيه أن يكون موافقاً لما يرويه من اللغة، فإذا خالف قولُه روايتَه بطُل الاحتجاج به كما يبطُل الاحتجاج بفعله إن كان مُخالفاً لعِلمه،فالاحتجاج بقول العالم مقبولٌ ما دام موافقاً لما يرويه من اللغة.
ولو سُلِّمَ أنّ الزمخشري يرى صحة الاستشهاد بكلام العلماء فإنّ المحققين من العلماء ردوا ذلك، ومن ذلك قول البغدادي في خزانة الأدب: ((واعْتُرِضَ عليه بأن قبول الرواية مبني على الضبط والوثوق، واعتبار القول مبني على معرفة أوضاع اللغة العربية، والإحاطة بقوانينها، ومِن الْبَيِّنِ أنَّ إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية.)) ([29]).
ثُمّ إنّ الزمخشري لو كان مُجِيزاً للاستشهاد بكلام العلماء وإن كان مخالفاً للمنقول عن العرب لشُوهِدَ ذلك في كتبه، وخاصة في هذه الْمسألة فقد سبقه جمعٌ مِن العلماء بإدخال (أل) على (غير) وأشباهها، لكنه ما تبعهم في ذلك، وقدتتبعَّت بعض كتبه الْمطبوعة في اللغة، والنحو، والتفسير، وما وجَدَت فيها شاهدٌ يدل على إدخاله (أل) على (غير) فدلّ ذلك على عدم جواز الاستشهاد بقوله على الاستشهاد بكلام العلماء الْمخالف لقواعد العربية.
كما يشهد لذلك رد الشِّهَاب الْخَفَاجِي ([30]) لدليل من استدل بفعل العلماء في إدخال (أل) على (غير) فقال: ((إذا لم يكن دخول اللام عليه ([31]) مرضياً للأدباء، وهم علماء العربية، ومنهم علماء اللغة كيف يتأتى استشهاده به؟)) ([32]).
وعدّ الْحريريُّ إدخالَ (أل) على (غير) مِن أوهام الْخواص ([33])، ولا شكّ أنّ مراده بالخواص في كتابه العلماء؛ لأن مراده تنبيه العلماء إلى بعض الأخطاء اللغوية التي يقعون فيها، وقد ألف العلماء كثيراً من الكتب التي تصحح أخطاء العلماء الأسلوبية واللغوية منها: كتاب درة الغواص في أوهام الخواص، وكتاب تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، وكتاب غلط الفقهاء، وكتاب غلط المحدثين، وغيرها، ولا شكّ أنّ هذه الكتب لا تعد انتقاصاً مِن حقِّ العلماء، بل هي من باب بيان الصحيح من الْخطأ، ثُم إنّ هذه الكتب هي من باب حفظ لغة القرآن الكريم التي وعد الله بِحفظه، قال الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
¥