وبوجود هذا الأصل في كتب اللغة، يكون نهاية الأمر أن نسكت عن (بابا) و (ماما) هذه ولا ننكر على أصحابها ولا نناقشهم فيها، ويحسن أن ننشر هذا الكلام في الاخوة الذين يقعون أحيانا في مشاحنات مع آبائهم اذ يقررون بين عشية أو ضحاها ألا ينادوا آباءهم وأمهاتهم - وقد اعتادوا منهم طوال حياتهم على بابا وماما - الا بأبي وأمي، ويحاولون بلا جدوى - ولا بينة ولا دليل - اقناعهم بأنها حرام وبأنها تقليد للكفار! فنقول لهؤلاء رفقا بأهليكم ومهلا، فلكم أن تواصلوا مناداة أهليكم بهذه الكلمات إذ الأمر قد صار من عرف المسلمين في زماننا، مناداة الأب والأم بهذه الألفاظ في أكثر بلاد المسلمين فلا يستقل به الكفار ولا يقال أنه علامة عليهم يتميزون بها، زد على ذلك ما ترونه الآن من موافقة لهذا الأصل العربي!

ومما يناسب الاشارة اليه في هذا المقام هو أن البلوى قد عمت في بعض بلاد المسلمين بألفاظ ليست من العرف اللغوي، بل هي مما يتعمد أصحابه مشابهة الكفار تعمدا وهو مما يميزهم في لغاتهم، ففيهم من يقول لأبيه (دادي) و Pصلى الله عليه وسلمPصلى الله عليه وسلم بنطقها الانكليزي، ولأمه (مامي) و Mamma بتشديد الميم الوسطى وهو اللفظ الافرنجي الذي لا يخفى أنه من لغات الافرنج، لا مما شاع في كلامنا! فهؤلاء من لا مرية في نزول حكم التشبه عليهم، ولو تأملت فيهم لوجدتهم يتشبهون بالكفار فيما هو أكثر وأخطر من ذلك، والله المستعان!

------------------

* = وهذا أمر يفتقر فيه الى دليل في الحقيقة، فلا أدري بأي شيء كان المسلمون في مختلف بلاد المسلمين ينادون آباءهم قبل دخول الفرنجة اليهم وتعرضهم بذلك للافتتان بهم وبعاداتهم وأنماط حياتهم! فالعجمة واقعة على ألسنة عامة المسلمين في لهجاتهم منذ قرون بعيدة، وكلما تباعدت الأزمان زادت تلك العجمة وزاد البعد عن ألفاظ العربية وزاد دخول وتسرب ألفاظ الى لسان الناس لم تكن من قبل منه كما هو معلوم، فاذا ما كثر استعمالهم لها، أصبحت من لسان العامة، لا بالضرورة من تقليد الكفار في ألسنتهم! فالأمر يحتاج الى تأمل دقيق .. اذ لا يمكن لنا أن نميز متى بالتحديد دخلت تلك الألفاظ (بابا) و (ماما) الى بلادنا المسلمة أول دخلوها، بل ربما كان وجود هذا الأصل العربي في كتب أهل اللغة دالا على أنها لم تأتنا من الخارج أصلا وانما بقيت مبثوثة فينا منذ أن دخلت ألسنة العرب الى بلادنا وفتحتها بالاسلام .. (أعني بلاد المسلمين التي لم يكن أصل لسانها العربية، فهذه هي التي يلاحظ فيها فشو هاتين الكلمتين)، وأقول لا يمكن لنا أن نحدد بداية ذلك لأننا مهما عثرنا على نص قديم فيه دلالة على وجود تلك الكلمة على ألسنة العامة، أمكن أن يكتشف بعد نص أقدم منه! فالذين يتكلفون من أهل التواريخ ومباحث اللغة - وأعني المتأخرين خاصة والمنتسبين الى الثقافة والفكر ونحوه - ما يسمونه دليلا على أول دخول للفظة كذا الى اللغة الفلانية هؤلاء يتوهمون الدلالة فيما لا دليل فيه! هذا يكثر في كتباتاهم ومصنفاتهم جدا ولا ندري أنى لهم الاستدلال عليه! ان عدم العلم لا يعني العدم!

فحاصل ذلك أننا لا يمكننا أن نحدد متى بالتحديد كان أول دخول لفظة ما الى لسان قوم بعينهم، الا ان جاءتنا أخبار ممن يوثق في خبره ويعتبر بكلامه بأن فلانا هو أول من نشرها في الناس وكانت اذ ذاك غريبة عليهم، ثم شاعت بعد ذلك، وهذا أمر من الندرة والتعذر بمكان، ولا أعلم له - في حدود علمي - مثالا! بل ومن المستحيل أن يتمكن المنقول عنه القول ببداية دخول لفظة ما الى كلام الناس، من أن يثبت أن كل الناس كانوا يستغربونها كما استغربها هو ومن وافقه في زمانه! فالذين يؤرخون لأصول الألفاظ ومنابعها أكثر كلامهم يقوم على النقولات التي لا سند يعتبر لها، ولهم استدلالات شديدة العجب، والله أعلم وأحكم.

والخلاصة أنه ان استطعت يا من تدعي أن لفظة بابا وماما هذه ما صار الناس يتلفظون بها الا تقليدا للكفار، ان استطعت أن تثبت متى كان بداية دخولها الى ألسنتنا في بلادنا، وأنها لم تكن شائعة بيننا قبل ذلك، وأن ذلك كان بسبب رطانة الكفار بها فيما بيننا، أو من افتتنوا بهم في زمان من الأزمنة المتأخرة، فتعال وهات ما عندك وأفدنا! والا فالقول بأنها تقليد لهم لا أرض له يقف عليها! ولا يكفي أن يقال أن مشابهة مخارجها اللغوية للغات الكفار دليل على ذلك فمن السهل اخراج ما يشابهها من كتب أهل اللغة العربية! وحتى وان اتفقنا على أنها كانت في مبتدأ استعمال الناس لها مأخوذة من لسان أعجمي، فمن منهم اليوم اذا ما قالها استشعر فيها عجمة أو تصور أنه بذلك يكون مقلدا للكفار؟؟!

ـ[أبو الفداء]ــــــــ[10 - صلى الله عليه وسلمpr-2008, صباحاً 08:56]ـ

ملاحظة أخرى عنت لي وأنا أتأمل النقل الذي تفضل بسوقه الينا الشيخ الفاضل، أن الظاهر منه أنه في مداعبة الصبية الصغار والأطفال الذين هم في مبتدأ التعرف على ألفاظ اللغة ودون سن اخراج الألفاظ على وجهها الصحيح .. فكأنما يشير المصنف في تعليقه على تلك البأبأة الى كونها من جنس ما يخرج من الصبية الصغار من أصوات ليست هي الكلام الصحيح ولكنها قريبة منه، كمثل قول الصبي غير المميز: "فاحا" يريد "تفاحة" وما أشبه ذلك! فهو في مرحلة تعلم النطق .. هذا ما استشعرته من قول صاحب النقل: " وقالوا بَأْبَأَ الصبيَّ أَبوهُ إِذا قال له بَابَا وبَأْبَأَهُ الصبيُّ إِذا قال له بَابَا "، فلا يظهر لي أن ذلك دليل على أن غير الصبية - الرجال البالغين - كانوا هم أيضا "يبأبئون" آباءهم ويقولون لهم "بابا" .. والله أعلم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015