وأما قولك إن العلم أصلا ضروري لا يحتاج لتعريف، فلا يخفى عليك أن هذا شيء قد اختلفوا فيه، بل بعضهم قال: إنه لا يمكن حده أصلا، وبغض النظر عن اختلافهم، فهذا الاختلاف لم يفدنا شيئا جديدا، وكل من يذهب إلى مذهب معين في تعريفه العلم لم يستفد شيئا جديدا بخلاف ما كان يعلمه.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[12 - Mar-2007, مساء 10:08]ـ
أخي أبو حماد، رضي الله عنه،
الحكم على الشيء ردا أو قبولا، فرع عن كونه معقولا. فصحة الأحكام التي طولبنا شرعا بإسنادها إلى موضوعاتها مترتب على دقة تصورنا للمحكوم عليه والمحكوم به،
فهل تعرف طريقا لتحصيل تلك المدراكات التصورية - بعد تحصيل بعضها بالعلوم الضرورية - غير التعريفات التي ترسم المعاني في القلوب؟؟
يا أخي الكريم عجبا لك!!
ترتب الشيء على الشيء معناه أنه لا يمكن تحصيله ولا العمل به إلا بعد تحصيل ما هو مترتب عليه، وهذا غير صحيح بالاتفاق هنا، وذلك من أوجه:
الأول: أنه لو كان متوقفا عليه لكان هذا الحد واجب المعرفة على كل من أراد أن يعمل بالمحدود، وذلك غير صحيح بالاتفاق، فإن المصلي لا يجب عليه اتفاقا معرفة حد الصلاة، والمزكي لا يجب عليه اتفاقا معرفة حد الزكاة، والحاج لا يجب عليه اتفاقا معرفة حد الحج.
بل إن الفقيه أو المجتهد لا يلزمه اتفاقا أن يعرف حد هذه الأشياء، بل يكفيه أن يعرف لوازمها وعوارضها، وهذا لا يستلزم علمه بالحد اتفاقا.
الثاني: أن ذلك لو كان متوقفا عليها لكان من أوجب الواجبات، ولكان أكثر إيجابا من الواجبات نفسها، ولكان بيان ذلك لازما للشارع، وهذا باطل بالاتفاق.
الثالث: أن الناس قديما وحديثا يكتفون بالتعريف بالمثال، وهذا أمر مشهور معروف في جميع الأمم والعصور، ولا يشترط أحد منهم معرفة الحد في صحة التصور، فالعرب في الجاهلية لم يكونوا يعرفون هذه الحدود لشيء من الأشياء إطلاقا، وكذلك لم يشتهر ذلك عن أمة من الأمم بخلاف اليونان، وحتى اليونان متنازعون متناقضون في كثير من حدودهم وتعريفاتهم.
والصحابة رضوان الله عليهم لم يرد عن أحد منهم مطلقا أنه ألزم الناس معرفة الحد، ولا جاء عن أحد منهم أنه لا يمكن معرفة الأشياء إلا بعد تصورها بالحدود، وإنما كانوا يكتفون بالتصور الجزئي الذي يفرق بين الأشياء تفريقا كافيا للتمييز بين المشكلات، ولذلك اشتهر عنهم كثيرا تعريفهم للأشياء بالتمثيل والتقريب وإن لم يكن على نمط الحد المنطقي، وهذا أمر مشهور متواتر عنهم لا ينازع فيه أحد، وقد نبه عليه غير واحد من أهل العلم من المفسرين والمتكلمين والفقهاء.
الرابع: أن المحدود لو كان لا يتصور إلا بالحد لكان تصور المحدود متوقفا على تصور الحد، ولكن تصور الحد أصلا لا يمكن أن يحصل إلا بتصور المحدود، وهذا يؤدي إلى دور، وهو باطل.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[12 - Mar-2007, مساء 10:22]ـ
ولا يخفى عليك - إن شاء الله - أن التصورات منقسمة إلى تصورات ضرورية حاصلة في قلوبنا اضطرارا، وإلى تصورات نظرية تدرك عادة بالتعريفات بحسب الطاقة، وعليه فالبحث في التعريفات لتحصيل التصورات النظرية أمر لا مفر منه إذا أردنا تحصيل المعارف، واشدد عضدك بهذه الدقائق فسنحتاجها لدفع شبهة الدور التي أوردتها يا أخي الفاضل ...
لعلك تقصد (وإلى تصورات نظرية تدرك بدقيق الفكر بحسب الطاقة)، ولا أظنك تعني المرقوم بالزرقة؛ لأن تصورنا للشيء لو كان متوقفا على تعريفه، فإما أن نقول: إن هذا التعريف وضعناه نحن وإما أن نقول وضعه غيرنا، لا يصح أن نقول وضعناه نحن؛ لأننا لا نستطيع أن نضع التعريف إلا بناء على حصول التصور ابتداء، ونحن جعلنا التصور متوقفا على التعريف فلا يصح.
وإن قلنا إن هذا التعريف وضعه غيرنا، فهذا الواضع كيف تصور هذا الشيء؟ إما أن يكون تصوره بنفسه وحينئذ يبطل توقف التصور على التعريف وإما أن يكون نقله عن غيره، فيؤدي إلى التسلسل وهو باطل.
فإذا ثبت أنك تريد المرقوم بالحمرة فحينئذ نقول:
لا يخلو التعريف المبني على دقيق الفكر أن يكون (مبنيا على مقدمات بدهية، أو مقدمات برهانية عقلية قطعية، أو مقدمات سمعية نقلية)
أو أن يكون (مبنيا على توهمات أو ظنون جدلية خطابية غير يقينية أو أمور اصطلاحية)
¥