دقيقة كونيّة في الآية القرآنيّة:شأن الفراش أن يكون ما تحته لا يصلح للجلوس والنّوم عليه , وما تحت وجه الأرض هو كذلك لا يصلح للحياة فيه فإنّ تحت القشرة العليا من الأرض المواد المصهورة والمياه المعدنيّة والأبخرة الحارّة ممّا تنطق به البراكين المُنتشرة على وجه الأرض في أماكن عديدة فكانت القشرة العليا من الأرض مثل الفراش تماما.
الآية الثالثة:
الألفاظ والتّراكيب:من كلّ شيء: من كلّ جنس من الأجناس , خلقنا: كوّنا , زوجين: فردان مُتباينان يكمّلّ أحدهما الآخر في عالم الحيوان وعالم النّبات وعالم الجماد , تذكرون: تذكرون ما أودع في فطرتكم من المعرفة لما تنظرون بعقولكم في عجائب الخلق فتُدركون ما له جلّ جلاله من الألوهيّة والرّبوبيّة والوحدانيّة , وقدّم ـ من كلّ شيء ـ لأنّ الأشياء هي المُستدلّ بها ولِبعث الهمم على النّظر فيها.
المعنى:إنّا خلقنا الأشياء التّي تُشاهدونها على الزّوجيّة والتّركيب من شيئين مُتضادّين لتكونوا , بحيث يُرجى منكم أن تعلموا أنّ النّقص والعجز عمّ المخلوقات كلّها لحاجة كلّ شيء منها إلى ضدّه , وقصوره بنفسه , فالقدرة والكمال للخالق وحده فلا يستحق العبادة سواه فاعبدوه ووحّدوه.
توسّع في التّذكر: النّظر في الأزواج مُفض للعلم بما ذكرنا وللعلم بأنّ الخلق غير صادر عن طبيعة الأشياء فإنّ النّار ــ مثلا ــ لا يصدر عنها التّبريد والتّسخين لأنّ السّبب لا يُنتج الضّدّين فالمخلوقات كلّها صادرة بطريق الخلق عن فاعل مُختار وللعلم بوجوه كثيرة من إحاطة علمه وشمول حكمته وعموم نعمته.
حقيقة نفسيّة في نُكتة بلاغيّة:إذا نظر العقل في هذه الأزواج وفكّر انكشفت له وُجوه سرّ دلائل الرّبوبيّة والألوهيّة والتّوحيد وإذا حصل الانكشاف الأوّل تبعته انكشافات , فإذا حصل منه التّذكر أفضى به إلى تلك الوجوه الكثيرة ولهذا نزل الفعل منزلة اللاّزم الذي لا يُراد منه إلاّ حصول الحدث.
آية كونيّة في الآية القرآنيّة:من الأزواج ما هو ظاهر مُشاهد معلوم من قديم مثل السّماء والأرض , واللّيل والنّهار والحرّ والبرد والذكر والأنثى في الحيوان وبعض النّبات , ومنها ما كشفه العلم بما مهّد الله له من أسباب كالجُزء الموجب والجُزء السّالب في القوّة الكهربائيّة وفي الذرة التي هي أصل التّكوين فلا فرديّة إلاّ لخالق هذه الأزواج كلّها الذي أنبأنا بها قبل أن تصل إلى تمام معرفتها العقول فكان من مُعجزات القرآن العلميّة التي يُفسّرها الزّمان بتقدّم الإنسان في العلم والعُمران.
بلاغة التّنويع والتّنزيل:لمّا كانت السّماء مُتلاحمة الأجزاء في العلاء ثابتة على حالة مُستمرّة في هذه الدّنيا على البقاء ناسبها لفظ البناء , ولمّا كانت مظهر العظمة والجلال ناسبها لفظ القوّة , ولمّا كانت الأرض يطرأعليها التّبديل والتّغيير بما يُنقص البحر من أطرافها وبما قد يتحوّل من سهولها وجبالها وبما يتعاقب عليها من حرث وغراسة وخصب وجدب ناسبها لفظ الفراش الذي يُبسط ويُطوى ويُبدّل ويُغيّر ولمّا كانت أسباب الانتفاع بها المُيسّرة ضرورية للحياة عليها وكلّها مُهيّأة وكثير منها مُشاهد وغيره مُعدّ يُتوصّل إليه بالبحث والاستنباط ــ ناسب ذكر التّمهيد , ولمّا كانت الأزواج مُكوّنا بعضها من بعض ناسبها لفظ الخلق ولمّا كان النّظر في الزّوجين هو نظر في أساس التّكوين لتلك المذكورات السّابقة وهو مُحصّل للعلم الذي يحصل من النّظر فيها قرن بلفظ التّذكر.
الآية الرّابعة:
الألفاظ والتّراكيب:الفاء للتّرتيب لأنّ ما قبلها على ما فيه من عظمة وكمال وجمال فهي مخلوقة موسومة بسمة العجز والنّقصان فلا يصلح شيء منها للتّعويل عليه فلم يبق إلاّ الخالق القادر ذو الجلال والإكرام فهو الذي يُفرّ إليه دون جميع المخلوقات , فِرّوا: اهربوا , النّذير: المُعلم بما فيه هلاك لتُجتنب الأسباب المٌُؤدّية إليه , المُبين: الذي يُوضّح ما أنذِر منه والأسباب المُؤدّية إليه والوسائل المُنجية منه , مع إقامة الحجّة على صدقه ونُصحه , وقدّم لكم ليُفيد اهتمامه بهم وذلك ليجلبهم إليه فيستمعوا لنُصحه وبُعده منه ليُبيّن مصدر رسالته وذلك ليُبيّن لهم أنّه مأمور فلا يستكبروا عن قبول دعوته , وأكّد الجُملة لأنّهم في مقام التّردّد أو الإنكار.
¥