المعنى:هذه المخلوقات كلّها عاجزة في نفسها مُفتقرة ــ ابتداء ودواما ــ إلى خالقها فاهربوا من شرّها إلى خالقها فهو الذي يُنجيكم ويهديكم إلى خيرها ولا تغترّوا بشيء منها فإنّها لا تملك حفظا لنفسها فكيف تملكه لغيرها , إنّني أحذركم الهلاك إذا اغتررتم بها وقطَعَتكم عن خالقها ولم تهربوا إلى الله منها وقد أبَنتُ لكم مصدر الهلاك وطريق النّجاة.

نُكتة التّنويع:جاءت الثلاث الآيات الأوَل كما يكون قولها من الله , وجاءت هذه الآية كما يكون قولها من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تنويعا للخطاب وتفنّنا , فإنّه لمّا كان ما في هذه الآية هو المقصود حوّل أسلوب الكلام من الإخبار إلى الأمر تجديدا لنشاط السّامع وبعثا لاهتمام المُخاطبين وحثا لهم وتوكيدا عليهم , وفيه تنبيه على أنّ ما يقوله النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل ما يقوله الله في وُجوب الإيمان والامتثال.

بيان وتوحيد:هذا العالم بسمائه وأرضه وأزواجه هو فتنة للإنسان بما فيه من لذائذ ومن جمال وما فيه من قوّة وما فيه من سُلطان , وقد ركّبت في الإنسان شهواته وأهواؤه وسُلّط عليه الشّيطان يُغويه ويُزيّن له , فكلّ هذا العالم إذا ذهب فيه الإنسان مع أهوائه وشهواته تحت إغواء الشّيطان وتزيينه فإنّه ينحطّ إلى أسفل سافلين ويصير عبدا لأهوائه وشهواته وشيطانه ولكلّ ما فتنه من العالم وذهب بلُبّه , وقد ينتهي به ذلك إلى عبادته من دون خالقه , فالعالم بهذا الاعتبار شرّ وبلاء وهلاك يجب الفرار والهروب منه ولا يكون هذا الفرار منه إلاّ إلى خالقه بالإيمان به , والتّصديق لرُسله , والدّخول تحت شرعه فبذلك يعرف الإنسان كيف يجعل حدّا لأهوائه وشهواته وكيف يضبطها بنطاق الشّرع وزمامه , وكيف يدفع عنه كيد شيطانه وكيف يتناول سماء العالم وأرضه وأزواجه بيد الشّرع فيعرف ما فيها من نعمة وحكمة فيستغلّها بهداية الشّرع مُفرّقا علميا وعمليّا ــ بين منافعها ومضارّها , فيعظم بها انتفاعه ويزداد فيها اطّلاعه واكتشافه , فتتضاعف عليه منها الخيرات والبركات ويزداد علمه وعرفانه , ويقوى يقينه وإيمانه ويعظم لله برّه وشكرانه , فيكون له ذلك العالَم جنّة الدّنيا وقنطرة لجنّة الأخرى , ويفوز من الدّارين بالمُبتغى , كلّ هذا بفراره من المخلوقات إلى خالقها فسَلم من شرّها وفاز بخيرها فمن هرب من المخلوقات إلى خالقها نجا ومن فرّ من الخالق إلى شيء من مخلوقاته كان من الهالكين.

إرشاد وتعميم:كلّ ما يُصيب الإنسان من محن الدّنيا ومصائبها وأمراضها وخُصوماتها ومن جميع بلائها لا يُنجيه من شيء منه إلاّ فراره إلى الله , ففي العدالة الشّرعيّة ما يقطع كلّ نزاع , وفي المواعظ الدّنيّة ما يُهوّن كلّ مُصاب , وفي الهداية القرآنيّة والسّيرة النّبويّة ما يُنير كلّ سبيل من سُبل النّجاة والسّعادة في الحياة , يعرف ذلك الفقهاء القرآنيون السّنّيّون , واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

تنبيه على وهم:ليس الفرار من الأمراض بمُعالجتها ومن المصائب بمُقاومتها فرارا من الله لأنّ الأمراض هو قدّرها والأدوية هو وضعها ودعا إلى استعمالها والتعالج بها وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مُقاومتها فكلّها منه بقدَره والإنسان مأمور منه بأن يُعالج ويُقاوم فما فرّ من قدَره إلاّ إلى قدَره ولهذا لمّا قال أبو عُبيدة لعُمر رضي الله عنهما في قصّة الوباء: أفرارا من قدر الله يا عُمر؟ قال عُمر: نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله >> وفي الحقيقة كان الفرار من شرّ في مخلوقٍ إلى الله يرجو منه الخير في غيره.

تحذير من جهالة:ليس المقصود بالفرار من الدّنيا ترك السّعي والعمل وتعاطي الأسباب المشروعة لتحصيل القوت ورغد العيش وتوسيع العمران وتشييد المدينة بل المقصود الفرار من شُرورها وفتنتها , وتناول ذلك كلّه على الوجه المشروع هو من الفرار إليه والدّخول تحت شرعه كما قدّمناه وقد ضلّ قوم فزعموا ذلك طاعة وعبادة فعطّلوا الأسباب وخالفوا الشّريعة وحادوا عمّا ثبت من السّنّة وفيهم سُئل إمام الحديث والسّنّة أحمد بن حنبل رحمه الله , سُئل عن القائل أجلس لا أعمل شيئا حتّى يأتيني رزقي , فقال: << هذا رجل جهِل العلم , أما سمع قول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله جعل رزقي تحت رُمحي , وقوله: تغدو خماصا وتروح بطانا , وكان

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015