ـ[يوسف بن علي]ــــــــ[08 - Nov-2010, مساء 02:13]ـ
الكتاب: الفرار إلى الله
(والسّماء بنيناها بأيدٍ وإنّا لموسعون ـ ـوالأرض فرشناها فنعم الماهدون ـ ـ ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكرون ـ ـ ففرّوا إلى الله إنّي لكم منه نذير مبين ـ ـولا تجعلوا مع الله إلها آخر إنّي لكم منه نذير مبين)
تمهيد:المقصود الأساسي من الآيات هو تحذير الخلق من الهلاك وترغيبهم في النّجاة , ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالفرار إلى الله , فمهّد لذلك بالآيات الثلاث الأوَل للتّرغيب فيه , وختم بالخامسة لبيان الفرار الصّحيح المُنجي عند الله.
الآية الأولى:
الألفاظ والتّراكيب:السّماء هي الجرم الأعظم الذي أحاط بالأجرام السابحة في الفضاء كلّها وعلا عليها , بنيناها: ضممنا أجزاءها بعضها إلى بعض بغاية الدّقة والإحكام فكانت كالقبّة فوق الجميع , بأيد: بقوّة , لموسعون: لمُقتدرون ومُطيقون , على احتمال أن يكون من الوسع بمعنى القدرة والطّاقة , أو لموسعون ومُبعدون بين أرجائها على احتمال أن يكون من السّعة , وقدّمت السّماء لأنّها المُشاهد المحسوس الذي تقوم به الحجّة , وليَقع البناء عليها مرّتين على لفظها وعلى ضميرها لأنّ الأصل: وبنينا السّماء بنيناها , لتحقيق أنّها مبنيّة وأنّ بناءها لم يكن إلاّ من الله القادر الحكيم , ولذلك علّق بالفعل على قوله بأيدٍ , والجملة الحاليّة تدلّ على أنّ الإيساع ثابت له عند البناء فذلك البناء العظيم لم يُنقص من قدرته أو لم يمنع من توسيعه.
المعنى:أنّ هذه القبّة التي أحاطت بكم من جميع الأرجاء نحن بنيناها بقُدرتنا ذلك البناء المُحكم المُتقن بنيناها ونحن على قوّتنا وقدرتنا نقدر على بناء أعظم منها لو شئنا , أو نحن على قدرتنا وطاقتنا في إفاضة الخيرات والبركات منها عليكم , ــ هذا على أنّه من الوسع ــ أو بنيناها وقد وسّعنا أديمها حتّى أحاطت بهذه الأجرام السّابحة التي منها ما لا يكون معه جرم الكرة الأرضيّة إلاّ كحمصة فوق مائدة كبيرة , ــ هذا على أنّه من السّعة ــ.
تحقيق آية كونيّة من الآيات القرآنيّة:السّماء في اللّغة هي كلّ ما علاك , فكلّ ما علا الأرض من سُحب وطبقات هواء وكواكب تسبح في الفضاء وما وراء ذلك من القبّة المُحيطة الكبرى هو للأرض سماء وكلّ هذه مُتقنة الصّنع مُحكمة الوضع مُتلاحمة الأجزاء مُرتبط بعضها ببعض ارتباطا مُقدّرا بالمسافات المُدققة التي لا يكون معها تصادم ولا ارتخاء ووضعها على هذه الصّورة المُنظّمة المُحكمة هو البناء وعليها كلّها ينبغي أن يُحمل لفظ السّماء في الآية المُتقدّمة وقد جاء لفظ السّماء في القرآن مُرادا به القبّة المُحيطة في مثل (<< ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح >>) (<< إنّا زيّنا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب >>) وجاء مُرادا به السّحاب في مثل (<< والذي نزّل من السّماء ماء بقدر >>) فإنّ المطر ينزل من السّحاب لقوله تعالى: (<< ألم تر أنّ الله يُزجي سحابا ثمّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله رُكاما فترى الودق يخرج من خلاله >>) وجاء مُرادا به طبقات الجوّ في مثل (<< ويُنزّل من السّماء من جبال فيها من برد >>) والبرد يتكوّر في طبقات الجوّ , والمُتتبّع لمواقع لفظة السّماء من الكتاب العزيز يتحقق هذا.
الآية الثانيّة:
الألفاظ والتّراكيب:الأرض هي هذه الكرة التي نعيش عليها , فرشناها: بسطناها بزينتها ومنافعها , الماهدون: من مهّد الشّيء وضعه وسوّاه وهيّأة للنّوم والجلوس والرّاحة , ويجري في تقديم الأرض ما تقدّم في تقديم السّماء , ومن يسير على هذا البساط المفروش ويطّلع على ما هُيّئ فيه من أسباب الحياة لكلّ ما فيه من حيوان لا يتمالك أن ينطق بالمدح والثناء على من هيّأ هذه التّهيئة ومهّد هذا التّمهيد ولذا قرنت الجّملة الأخيرة بالفاء فقيل فنعم الماهدون , ولا يُغني فرش الأرض عن مهدها لأنّ المهد يتضمّن ما حصل فيها من مرافق ومواد وأسباب للعيش على أديمها والتّنعم بخيراتها.
المعنى:إنّ الأرض التي أنتم مُتمكّنون من الوجود على ظهرها والسّير في مناكبها والانتفاع بخيراتها نحن فرشناها لكم وهيّأنا لكم أسباب الحياة والسّعادة فيها على أكمل وجه وأنفعه وأبدعه , ممّا نستحقّ به منكم الحمد والثّناء.
¥