المقدمة الأولى: طرد الإباحة مطلقاً بإبداء كل ما ثبت أنه ليس بعورة, وقد تقدم بيان خطأ ذلك , وأزيد من الحجة على خطأ هذه المقدمة , أن الفقهاء لا يجعلون ثدي المرأة من العورة أمام النساء , وهم مع ذلك يوجبون ستره إلا لحاجة , بل من الفقهاء من يقول: عورة المراة أمام المحارم من السرة إلى الركبة , وهم قطعاً لا يعنون أن لها كشف باقي جسمها أمام محارمها دائماً فتدبر.

المقدمة الثانية: التفريق بين ما شُرع لأمهات المؤمنين , وبين ما شُرع لغيرهن من نساء المؤمنين من فريضة الحجاب , والقول بأن ستر الوجه فرض على أمهات المؤمنين , وسنة ومستحب في غيرهن من نساء المؤمنين , وهذا القول مردود ولا دليل عليه كما تقدم بيانه.

المقدمة الثالثة: اعتقاد أن اختلاف الصحابة في تفسير قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] موجب للقول بإباحة السفور , إذا ترجح تفسير من فسره بالوجه والكفين.

وهذه المقدمة ظاهرة البطلان , لمن أقر بأن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين , إلى قبل حادثة الإفك وجوب ستر الوجه , لأن نزول هذه الآية التي في سورة النور وفيها الرخصة بإبداء ما ظهر من الزينة , إنما نزلت بعد حادثة الإفك , والتي أخبر الله عنها في أوائل سورة النور , والرخصة إنما هي استثناء عن الأصل وليس نسخاً له.

والتشريع الإلهي أتى لسد باب الفتنة ومنع حصول الشهوة , والقول بأن آية الرخصة جاءت بإباحة السفور , يعود بالنقض على أصل التشريع وهذا ممتنع , ويردها أيضاً أن عامة الفقهاء والمفسرين قالوا: أن هذه الأية رخصة في إبداء بعض الزينة للحاجة , وفسروا الزينة بالوجه واليدين لظهورهما في الصلاة , فلو كانتا عورة لما جاز كشفهما في الصلاة.

وخالفهم غيرهم وقالوا: إنما الرخصة في إبداء ما لم يمكن تعاهده بالستر كالثياب , لأن الزينة كلها عورة بمعنى مكمن للستر لا أنها بمنزلة السؤاتين.

فالخلاف قريب جدًا , وهو في العلة الموجبة لستر ما أمر الله تعالى بستره من تشريعه للحجاب , فمن قال: إن العلة هي الفتنة ومنع الشهوة , رخص في كشف الوجه للحاجة وعند الآمن من الفتنة.

ومن قال: إن العلة هو ستر العورة مستدلاً بالحديث ((المرأة عورة)) , قال: إن الرخصة فيما يتعذر ستره كالثياب ونحوها.

قال ابن عطية: ويظهر لى بحكم ألفاظ الآية، بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدى، وأن تجتهد فى الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر، بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك، " فما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدى إليه الضرورة فى النساء فهو المعفو عنه. انتهى من تفسير القرطبي (12/ 229)

واعلم رحمك الله بأن الخلاف الواقع بين المفسرين والفقهاء ومن قبلهم الصحابة حول هذه الآية , إنما هو حول تحديد المقصود بالرخصة , وبأي حال كان اختلافهم فإنه لا يصل إلى إباحة السفور وصفته كشف الوجه دائمًا.

فمن تجده يختار أن الزينة الظاهرة هي الوجه واليدان , تجده ينص على أن الأمر في قوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} يشمل وجوب ستر الوجه , مما يدل على أن الرخصة عنده بإبداء الوجه , إنما في مواطن معينة وليس المقصود به سفوراً مطلقاً.

وأقرب مثال على ذلك , صنيع إمام المفسرين ابن جرير رحمه الله وإليك هو ذا: فعند قوله تعالى {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} يقول رحمه الله: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ؛ لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول ". انتهى

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015