الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تَنْوِيعِهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا السِّتْرَ وَالْحِجَابَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي بَعْدَهُ، وَهِيَ مِمَّا تُبَيِّنُهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْلُبُ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِتَارِ، فَدَلَّ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْيِيزَهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ، أَوْ بِقِنَاعٍ مُفْرَدٍ، يَعْتَرِضُهُنَّ الرِّجَالُ فَيَتَكَشَّفْنَ، وَيُكَلِّمْنَهُنَّ؛ فَإِذَا تَجَلْبَبَتْ وَتَسَتَّرَتْ كَانَ ذَلِكَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَعَرِّضِ بِالْكَلَامِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْإِذَايَةِ. انتهى
قال الثعلبي في تفسيره عند قوله {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ}: أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن , ليُعلم أنّهنّ حرائر , فلا يُتعرّض لهنَّ ولا يؤذين.انتهى
قال النحاس في معاني القرآن عند قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك إلى آخر الآية}: قال الحسن: تغطي نصف وجهها , وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت علاها بالدرة.
قال محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن قوله تعالى {يدنين عليهن من جلابيبهن}؟ فقال: تغطي حاجبها بالرداء , ثم ترده على أنفها , حتى تغطي رأسها , ووجهها , وإحدى عينيها. انتهى
قال العز بن عبد السلام كما في تفسيره (1/ 920): (جلابيبهن) الجلباب: الرداء، أو القناع، أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها.
وإدناؤه: أن تشد به رأسها , وتلقيه فوق خمارها , حتى لا ترى ثغرة نحرها، أو تغطي به وجهها , حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى.انتهى
قال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (7/ 240): والجلابيب: الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل.
وقال ابن جبير: المقانع؛ وقيل: الملاحف، وقيل: الجلباب: كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل: كل ما تستتر به من كساء أو غيره.
وقيل: الجلباب أكبر من الخمار. وقال عكرمة: تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى. وقال أبو عبيدة السلماني، حين سئل عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وقال السدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين. انتهى. وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة. وقال الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالإنضمام معنى: الإدناء. وقال ابن عباس، وقتادة: وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
ومن في {مِن جَلَابِيبِهِنَّ} للتبعيض، و {عَلَيْهِنَّ} شامل لجميع أجسادهن،أو {عَلَيْهِنَّ} على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. انتهى
قال الألوسي في روح المعاني (22/ 88): والادناء التقريب , يقال: أدناني أي قربني , وضمن معنى الارخاء أو السدل , ولذا عُدي بعلى , على ما يظهر لي , ولعل نكتة التضمين , الإشارة إلى أن المطلوب: تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل.انتهى
وقال رحمه الله في قوله تعالى {من جلابيبيهن}: ومن للتبعيض , ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد بالبعض , واحداً من الجلابيب , وإدناء ذلك عليهن , أن يلبسنه على البدن كله.
وثانيهما: أن يكون المراد بالبعض , جزأ منه , وإدناء ذلك عليهن , أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه , بجزء من الجلباب , مع إرخاء الباقي على بقية البدن. انتهى
فإذا ظهر لك ما تقدم من تفصيل , وتذكرت أن الرخصة التي جاءت في سورة النور , في إظهار الزينة الظاهرة لم تنزل إلى زمن حادثة الإفك, تيقنت أن ستر الوجه فرض على نساء المؤمنين بعامة بلا خلاف , على الأقل إلى قبل نزول الرخصة في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.
ثم اعلم أرشدك الله للصواب: أن القول بإباحة السفور , بُني على ثلاث مقدمات خاطئة:
¥