وجاء هذا التفسير لصفة الإدناء عن ثلاثة من كبار أهل العلم قولياً وعملياً وهم: ابن عون وابن سيرين وعبيدة السلماني رحم الله الجميع.
قال ابن جرير الطبري: حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيدة في قوله (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) فلبسها عندنا ابن عون قال: ولبسها عندنا محمد. قال محمد: ولبسها عندي عبيدة. قال ابن عون بردائه فتقنع به، فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب. اسناده صحيح وهو شاهد جيد لما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما قول ابن جرير: اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به.انتهى
المقصود بهذا الاختلاف اختلاف التنوع , لأنه قد جزم رحمه الله بأن المراد من الأية مخالفة الإماء اللاواتي كن يكشفن شعورهن ووجههن.
فقال ابن جرير رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ؛ لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول. انتهى
ولذلك لم يرجح ابن جرير كعادته أحد التفاسير على الأخر , لعدم وجود التعارض الموجب للترجيح , لذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيرين لكيفية الإدناء في الآية , والتفسير الثاني الذي أورده ابن جرير لمعنى الإدناء غير مخالف للأول , وبه يحصل الواجب , فالتقنع هو مرادف للتنقب , و التلثم , والتبرقع , وبه يغطى أكثر الوجه , وهو خلاف السدل الذي يكون بالإرخاء من الأعلى.
والحجة في ذلك , ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة , فأمر الله نساء المؤمنين , أن يدنين عليهن من جلابيبهن. وإدناء الجلباب: أن تقنَع وتشد على جبينها.
فقول ابن عباس رضي الله عنه: ((أن تقنّع)) مطابق لقول ابن علية في التفسير الأول عن عبيدة السلماني: ((فتقنّع به)) عند وصفه لفعل ابن عون.
ويؤكد ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما , في فتوى له حول إحرام المرأة المتقنعة وكيف تصنع بحجابها , وهذه الرواية من طريق الشافعي وهو في مسنده برقم (544): أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: تدلى عليها من جلابيبها ولا تضرب به. قلت: وما لا تضرب به؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة ثم أشار إلى ما على خدها من الجلباب فقال: لا تغطيه فتضرب به على وجهها , فذلك الذي لا يبقى عليها , ولكن تسدله على وجهها كما هو مسدولاً ولا تقلبه ولا تضرب به ولا تعطفه.
قال ابن الأثير في شرحه لمسند الشافعي (3/ 272): " وحقيقة قوله ((ولا تضرب به)): يريد أنها لا تلصق جلبابها ببشرة وجهها , كأن الجلباب قد ضرب الوجه بمباشرته له , ومنه قول الله عز وجل {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} ". انتهى
وقال الحافظ ابن حجر (الفتح 8/ 490) في تفسير التقنع: قوله فاختمرن أي غطين وجوههن وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع. انتهى
فظهر لك أن التقنع يراد به تغطية أكثر الوجه , وهو منهي عنه في الإحرام للمراة , لأنه من جنس التنقب والتبرقع والتلثم , وإن كان يأتي أيضاً بمعنى تغطية الرأس ولا يلزم منه امتناع تغطية الوجه بطرفه , وأما التحكم بحصره بمعنى غطاء الرأس فقط فهو مردود , بما ثبت من فعل أمهات المؤمنين , ونساء الصحابة رضي الله عنهن , استجابة للأمر في آية الإدناء وتقدم ذكره.
¥