فقول عائشة رضي الله عنها: ((خرجت سودة بعد ما ضُرب الحجاب)) نص في أن هذه الآية نزلت بعد الأمر المجمل في قوله تعالى {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] فلما كانت حاجة النساء الخروج للبراز ولحاجاتهن الأخرى , ولتعارض هذه الحاجة مع الأمر بالحجاب , ومن قبله الأمر بالقرار في البيوت وعدم التبرج كما في قوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] , ولتعرض الفساق لهن لاشتبهاهن بالإماء كما اتفق على ذلك المفسرون , أذن الله جل وعز لهن بالخروج لحاجتهن وبيّن لهن صفة الحجاب الشرعي بقوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].

وقد نص ابن عباس رضي الله عنه على هذا المعنى فقال: " أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة ".رواه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة , وصحيفة ابن أبي طلحة احتج بها البخاري في الصحيح وابن أبي حاتم في تفسيره , وقال الإمام أحمد: في مصر صحيفة عن ابن عباس تُشد لها الرحال أو كما قال.

ومن أسباب نزول الأية أيضاً وباتفاق أهل العلم بالتفسير , تمييز الحرائر عن الإماء , ويدل عليه قوله تعالى {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} ويشهد لذلك ما ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان بعد فرض الحجاب ينهى الإماء عن التشبه بالحرائر بلبس الجلباب. (انظر مصنف عبد الرزاق حديث 6240).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ عَلَى النِّسَاءِ لِئَلَّا تُرَى وُجُوهُهُنَّ وَأَيْدِيهِنَّ. وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ: أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لُكَاعُ. فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَمَةِ رَأْسُهَا وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا.انتهى من مجموع الفتاوى (15/ 372)

والأمر في قوله تعالى {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] صريح في إفادته العموم , ولا سبيل لتخصيص أمهات المؤمنين بهذا التشريع الإلهي الصريح في عمومه , فمن أقر بعموم هذا التشريع , وعلم صفة حجاب أمهات المؤمنين , وأن تغطية الوجه فرض داخل في إدناء الجلباب عليهن , كما حكته عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قائلة: " فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي " فوجب عليه طرد ذلك في صفة حجاب نساء المسلمين , وهذا ما فهمنه نساء المدينة ومدحوا به رضي الله عنهن كما أخرجه أبو دواد في سننه بإسناد صحيح برقم (4103): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَة.

ومن المعلوم أن حادثة الإفك قد وقعت بعد فرض الحجاب إجمالًا وتفصيلًا من آيتي سورة الأحزاب رقم (53) و (59) وقبل نزول آية سورة النور رقم (31) والتي فيها الرخصة في إبداء ما يظهر من الزينة الظاهرة في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. فيُعلم من ذلك أن من صفة الحجاب لأزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين , قبل نزول سورة النور ستر الوجه قطعاً.

وقد جاء تفسير الإدناء في قوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015