وفي المقابل – وفي نفس الوقت ولنفس العلة – فإن ما قرره عالم الأحياء الأمريكي مايكل بيهي فيما أسماه بمبدإ التركيب غير القابل للاختزال Irreducible Complexity لا يمكن اعتباره دليلا إمبريقيا أو (علميا طبيعيا) على بطلان نظرية داروين، وإنما هو دليل عقلي فلسفي محض في الحقيقة! فخلاصة هذا المبدإ أنه يقول إن النظام البيولوجي الذي لا يعمل على نحو صحيح إلا باجتماع جملة المكونات التي يتكون منها على النحو الذي هي عليه، لا يمكن أن يكون قد ظهر إلى الوجود مفتقرا إلى شيء منها! وهذا المبدأ صحيح لا يماري فيه إلا من لا يدري يمينه من شماله، ولكنه حجة عقلية (فلسفية) محضة كما أسلفنا، وليس دليلا حسيا ولا من جنس الأدلة التجريبية! فسواء نظرية داروين في أصل الأنواع أو مبدأ بيهي هذا وغيره فيما يسمى بالتصميم الذكي، هذه كلها قضايا فلسفية محضة، وليس من الممكن إثبات أو إبطال أي منها بالحس والمشاهدة، ولا يمكن إخضاعها لمبدإ بوبر في شرطه لنظرية العلم الطبيعي. لا يمكن أن يأتي أحدهم بنظام مكون من أجزاء، لا يعمل على النحو الذي صمم لأجله إلا باجتماعها، ثم ينزع منه جزءا من تلك الأجزاء، ويظل ذلك النظام يعمل على النحو الذي صمم لأجله، فيثبت بذلك بطلان هذا المبدإ! هذه محاججة مدارها ضروريات العقل واللغة كما هو واضح، وليس الحس والمشاهدة! ونحن نقول فليكن أن هذا المبدأ ليس من العلم الطبيعي، فكان ماذا؟ هل يعني هذا بطلانه أو تخلفه عن إبطال خرافة الارتقاء الدارويني؟ كلا! وإنما العبرة بقوة الدليل لا بنوعه أو الحقل العلمي الذي يندرج تحته!

فعندما نقول لهؤلاء المجرمين الجحدة إن القرءان قد قامت له سائر الدلائل القطعية على صحة نسبته إلى خالق السماوات والأرض، ثم يأتي القائل منهم ليرمي علماء المسلمين بالسفاهة عندما يبطلون له نظرية من نظرياته لمعارضتها لما في نصوص الوحي، فإن مجرد تكلف المجادلة والمناقشة مع هؤلاء والتنزل معهم لمستوى المحاججة والمناظرة، فيه حطّ كبير من مقادير أهل العلم والحكمة وتنقص من قوة الحق الظاهر الذي يجحده هؤلاء وهم يعلمون! أي نظرية هذه التي يصفون بها حقيقة الخلق، وما شأننا نحن بقوم من جهلاء النصارى لم يجدوا من سبيل لمقاومة دعاوى الملاحدة سوى موافقتهم على استعمال أدوات العلم الطبيعي فيما لم توضع لأجل أن تستعمل فيه أصلا؟

فالحاصل أن هذه الطرائق في التقديم والتأخير وفق منازل الأدلة، من بعد النظر في آليات الجمع، لا يملك عاقل أن يبطل أصلها العقلي الذي نحن بصدده ههنا، وهي معمول بها في سائر فنون العلم البشري، ألا وهو هذه الثلاثة:

- تقديم القطع على الظن (من بعد تعذر الجمع بين الدليلين في المسألة)،

- تقديم الظن الأقوى على الأضعف،

- العمل بالظن الضعيف (بضوابط) عند عدم ما يخالفه في بابه.

وهذه العلوم في ضبط الدلالات والنظر في موازنة الأدلة العقلية والنقلية والحسية، إنما يقوم فقه المسلمين لدينهم ولخطاب ربهم عليها! وهي عندهم أضبط ركنا وأقوم جانبا من سائر نظريات فلسفة المعرفة عند من تأمل في هذا وذاك ورام المقارنة! فإنما استقى أئمة المسلمين تلك الأصول من نصوص الوحي المطهر، بالاستقراء والتجريد وتحرير القواعد العامة، لا بالتنظير العقلي المجرد المبتور عن حكمة السماء، كما هو شأن الفلاسفة في غيره من المعارف البشرية. ولهذا فما من أصل من الأصول العقلية النظرية التي يتفق عليها عقلاء صنائع العلوم البشرية بشتى مجالاتها وحقولها إلا وترى ما يوافقه في أصول النظر العقلي (أصول الفقه) عند المسلمين، وما من باطل إلا وترى عند المسلمين ما يبطله بالحجه العقلية – فضلا عن النقلية – الدامغة، ولله الحمد والمنة.

وفي الختام أقول، إن الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها. ولهذا فإن علماء الطبيعيات من المسلمين الذين هم على إلمام بأصول دينهم وأصول الفقه في شريعتهم، وأصول الاستدلال والنظر العقلي في صنعة العلم الطبيعي التي يشتغلون بها، هؤلاء قد ملكوا زمام ذلك العلم الدنيوي بحقه، لأنهم يزيدون على نظرائهم من أهل الملل الأخرى بفارق الحكمة المنزلة من رب العالمين! فلا تراهم يضيعون أعمارهم وأوقاتهم في البحث في قضية محسومة مسبقا، ولا يقبلون النزاع في أمور مقطوعة بدليل لا يمكن نقضه، ولا يسمحون بتسخير البحث العلمي لغايات

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015