النيوتوني للكون، فقد انقرض ذلك الإجماع بظهور النسبية العامة وانقلب إلى الإجماع على صحة التصور النسباني للكون، وهو ما قد انخرم في زماننا هذا كما يعلمه أهل علوم الفيزياء والرياضيات. فإن أي نظرية تفسيرية أو استقرائية (من قبيل الاستقراء الناقص) مهما اتفق أهل صنعة من الصناعات على قبولها في زمان من الأزمنة فإنهم يتفقون – كذلك – على لزوم تركها إلى ما هو أفضل منها وأقوم بمجرد ظهوره عندهم.

غير أنه ليس من المعسور على المنتسبين إلى أي صنعة من صناعات العلم أن يدعوا وقوع الإجماع فيما بينهم على نظرية أو مذهب يتعصبون له ويحملهم هواهم على الدفاع عنه والانتصار له، يجعلونه في منزلة الإجماع المحسوم الذي لا يقبل النزاع. وللجواب على هؤلاء فإنه يُنظر في قضيتين:

- هل هذا الصنف من المسائل يصح الاحتجاج بالإجماع فيه على افتراض وقوعه؟ (بمعنى هل هو إجماع منتهي لا يقبل النزاع)

- وإن كان كذلك فهل قد وقع هذا الإجماع حقا؟

ولهذا نقول إنه لا حجة للدراونة في احتجاجهم بإجماع أهل علوم الأحياء على صحة نظرية داروين (مثلا) – لكلا الاعتبارين السابقين جميعا. فإنه لا يمكن أن يثبت إجماع فيها أصلا لأن سائر علماء الأحياء من المسلمين والنصارى واليهود يرفضونها إما إجمالا أو تفصيلا كما يعلم الدراونة ذلك تمام العلم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فلأنهم كذلك يقولون إن هذا الصنف من النظريات ليس إلا أقرب التفسيرات المتاحة حاليا إلى موافقة ما تحصَّل لهم من المشاهدات، وهم يتمسكون عند المحاججة بإمكان ظهور ما يبطل ذلك التفسير – من حيث الإمكان العقلي المجرد – ويضع غيره في مكانه، ومن ثمّ فلا عبرة بعدد الموافقين لها اليوم ولا بزعمهم أنها من (الحقائق العلمية) بما يوحي بأنها من القطعيات التي لا يمكن إبطالها أصلا! هذا ولا يخفى على أهل النظر والتحقيق في أصول فلسفة الداروينية ما تقوم عليه من خُلف عقلي وتناقض فلسفي متجذر في أصولها، حيث تروم المراكبة بين مفهوم العشواء ومفهوم الآلية المنظومة المسبوكة في إطار قوانين الطبيعة، على نحو يجمع بين المتناقضين، ويهدم كلا من مفهوم العشواء ومفهوم القانون جميعا! فكيف يعقل أن يقع إجماع على مفهوم طافح بالتناقض العقلي ومصادم لضروريات العقل على هذا النحو؟ هذا ممتنع ولا شك.

لذا فلا حقيقة لدعواهم الإجماع ولا قيمة له في ميزان الحجاج العقلي حتى لو افترضنا وقوعه تواترا فيما بينهم.

والحق أن نظرية داروين سائر أدلتها من قبيل الاستقراء الناقص، ولا يمكنهم أصلا إبطالها يوما ما وإن حرصوا، لأنه لا يمكن أن يظهر من المشاهدات الحسية ما يُقطع معه ببطلانها! هل يمكننا أن نقف على حدث الخلق الأول نشهده بأعيننا كيف كان؟ لا يمكننا ذلك! وإذن فما من سبيل من سبل الاستدلال الحسي أو الإمبريقي يمكن أن يبطلها! ولما سأل أحد المدققين في فلسفة العلوم ذات يوم رأسا من رؤوس التنظير الدارويني "كيف يمكن إبطال نظرية داروين؟ "، أجاب متحديا: "أخرجوا لنا أرنبا من طبقة البريكامبريان"! وهو في الحقيقة يغالط مغالطة واضحة لأن هذا الملطوب حتى لو افترضنا أن ظهر في إحدى الحفائر فإنه لا تقوم به الدلالة على إبطال النظرية، لأنهم في الحقيقة لن يعدموا له تأويلا يوافقها، وهم مضطرون إلى ذلك للحفاظ عليها (وهو المسلك العقلي المطروق في ما كانت هذه منزلته من النظريات الظنية في شتى فنون العلم)! فحينئذ سيقول قائلهم – على ذات النسق العقيم في جحد القطعيات العقلية الواضحة التي تهدم الداروينية - إن مئات الآلاف من الحفريات والمشاهدات الحسية لا يمكن إسقاط دلالتها لحفرية واحدة كهذه، وإنما ينصرف العلماء في مثل ذلك إلى تأويلها بما يوافق النظرية لا بما يهدمها! فنحن نقول إنه ما دامت النظرية لا يمكن إبطالها – عقلا – باستخدام وسائل التجريب والحس المباشر (الدلائل الإمبريقية) فهي ليست من نظريات العلم الطبيعي في الحقيقة، وإنما هي نظرية من نظريات الفلسفة الغيبية تتخفى في دثار العلوم الطبيعية!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015