ومع أن علماء الطبيعيات من الملاحدة يقرون بهذا المعنى إجمالا، إلا أننا نراهم يلحدون عنه عمدا وينحرفون في إعماله اتباعا للهوى، عندما يتعلق الأمر بعقيدتهم في الغيبيات وفي الخالق. فتراهم يتمارون في أمور هي من قطعيات العقل السوي، يرومون إبطالها بجمع أوهن وأضعف صنوف الظنيات إلى بعضها البعض، بدعوى أن المخالف – أي من أهل الديانات - لا يملك من مثل هذه (الأدلة) ما يرقى لنقضها! وهذا من المغالطة الواضحة! لأن طبقة الأدلة التي بها جزمنا بوجود الخالق جل وعلا، لا يرقى إليها شيء أصلا من ظنيات القوم مهما تراكمت! بل لا يرقى إليها إلا دالالة الحس المباشر (أن يطلعوا على الغيب الماضي أو الغيب الماورائي، اطلاعا مباشرا بالحس والمشاهدة ويرجعوا إلينا بدلالة حسية مباشرة تبطل قولنا بوجود الخالق)، وهذا ممتنع أصلا بضرورة العقل، ولو جاز لانهدمت سائر ضروريات العلوم ولفسد على الإنسان عقله! ولهذا نستسيغ في هذا المقام أن نقول لهم – كما يسمعون منا كثيرا - إن الداروينية هذه "ليست إلا نظرية"، على سبيل التحقير والحطّ من قوتها الاستدلالية، كما يصنع سائر المشتغلين بالرد عليهم من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم، مع أننا – من حيث الأصل – نقبل هذا الصنف من الأدلة الذي ينتحلونه لإثبات الداروينية، ونعمل به في بابه ما لم يظهر له معارض!
ولذا فإننا نقول إذا كان ثبوت وجود الخالق جل وعلا من ضروريات العقل المحضة، وكان ثبوت نسبة القرءان إليه تبارك وتعالى من القطعيات التي لا نكاد نحصي سبل البرهنة عليها، وكانت نبوة محمد عليه السلام ثابتة بطبقات من الأدلة جلها في منزلة القطع اليقيني، ففي أي شيء يتمارى هؤلاء المجرمون، إذا ما قلنا لهم إن نظريتكم هذه أو تلك تخالف ما هو ثابت عندنا من خبر الخلق أو من خبر الغيب السحيق؟ وكيف يتمارون في يقينية هذا الاعتقاد لدينا، ينسبوننا إلى اتباع أساطير الأولين وقد علموا أنه لا مدفع له من عقل ولا حس؟؟ إنه الهوى المحض، والمكابرة مع العلم ببطلان ما هم عليه! لا عبرة بشيء من نظرياتهم الظنية وقد تعمدوا إهمال القطعيات الجلية من أجل إثباتها! فمن جادلهم في تلك الظنيات وغفل عن حجة القطع الدامغة، فقد استُدرج إلى ما وقع في مثله النصارى من قبل، والله المستعان!
إن الظن يتفاوت في مقداره، من حيث قوة احتمال صحته عند المستدل به. فعلى سبيل المثال، يتدرج الحكم على الحديث في علوم السنة على درجات من حيث قوة الظن بسلامته من الشذوذ أو العلة، فترى الحديث الصحيح ثم الصحيح لغيره ثم الحسن ثم الحسن لغيره، وهذه كلها مراتب يحتج فيها بالحديث في العقائد وأبواب الحلال والحرام، وإن كان من أخبار الآحاد! والفرق بين أعلاها وأدناها في القوة أن الحديث الصحيح تتضاءل احتمالية وجود العلل في إسناده والعوارض الموجبة لدفعه إلى أدنى حد، بينما في الحديث الحسن تعلو تلك الاحتمالية إلى أعلى حد دون أن تصل إلى الحد الذي يترجح عنده إعلال ذلك الحديث وتركه! وفي الحديث الحسن لغيره تظهر العلة في السند ولكنها كذلك لا توجب تركه لأنه يتقوى بغيره من الأسانيد لنفس الحديث وإن كان ضعيفا في نفسه. وسواء الصحيح أو الحسن، فكلاهما حجة موجبة للعمل في بابه، ما لم يظهر في الباب من الأدلة ما يعارضه مما هو أقوى منه.
ولهذا نرى وقوع الخلاف العلمي المعتبر في سائر صناعات العلم بلا استثناء. فحقيقة أنه معتبر تعني أن أهل الصنعة (المختصين في فن من فنون العلم) يرونه خلافا مما يعذر به الواقع فيه منهم ولا يشنع عليه، لأن مداره الترجيح بين أدلة ظنية على مراتب متفاوتة تختلف أنظارهم في تقديرها وكيفية الجمع بينها، وذلك بخلاف ما لا يعتبر من الخلاف، كالشذوذ عن معاقد الإجماع المحسوم عندهم، فإن هذا الأخير لا يتوقف أهل الاختصاص – في أي فن من فنون العلم – في رفضه ولا يترددون في رده على صاحبه. وقد قيدت الإجماع هنا بقولي (المحسوم) أو المنتهي لبيان أن المراد به ما لا يقبل أهل الصنعة الخروج عليه البتة، ولا يجيزون احتمال أن يظهر في المستقبل ما يبطله، تمييزا لذلك الإجماع عن صنف آخر غير منتهي، يتفق أهل الصنعة على إمكان خرقه أو انتقاضه في المستقبل (على افتراض إمكان وقوعه ابتداء)! ومثال هذا الأخير في علوم الطبيعيات إجماعهم قبل قرن من الزمان على صحة وكفاءة التصور
¥