الواحد والعشرين)، تماما كما كان يتبع هواه في البقاء على النصرانية من قبل، يتقلب من هوى إلى هوى، ثم إلى الهاوية منقلبه يوم لا يجدي الندم!
وصحيح إن الاستقراء الناقص دليل معتبر من حيث الأصل، ولكنه يبقى دليلا معتبرا في بابه ما لم يقم في مقابلته ما ينقض دلالته! فمن حق قائل أن يقول إن وقوع الحدث (س) في السياق (ص) غير وارد احتماليا، أو أن احتماليته ضعيفة إلى حد يقرب من الاستحالة، بالنظر إلى أننا لم نر (ص) من قبل إلا بما يمنع وقوع (س). ولكن ما بالكم إن وقع ذلك الحدث (س) بالفعل ورآه بعض الناس؟ هل يرقى هذا الاستقراء – الذي هو ناقص في حقيقته مهما تراكمت مفرداته – لإبطال ما يراه هؤلاء بالحس والمشاهدة؟ كلا ولا شك. ما لم يكن لدينا ما يحملنا على الشك في عقل هؤلاء أو صدقهم أو ضبطهم، فلا نكذبهم فيما شهدوا بأعينهم! ولو أن رجلا صادقا أمينا ضابطا نقل إلينا خبر هؤلاء الذين رأوه، أفنرد خبره ذاك مع أننا نعلم أن ضعف الاحتمالية لا يعني الامتناع العقلي، وأن ما جاءنا به من خبر إنما هو داخل في باب الممكنات العقلية؟ هذا من المكابرة بمكان. ولذا فلما فقد النصارى الدليل التاريخي (خبر الصادق الذي يرتكن عليه في إثبات أمر خارق للعادة على هذا النحو) عجزوا عن مدافعة الملاحدة في هذا الأمر، ولم يبق لهم إلا التعلق بالإمكان العقلي المجرد. ولكن هل يغفل الملاحدة عن حال الخبر بهذه المعجزة في القرءان، وعن قوة التواتر الذي نقل به إلينا هذا الكتاب من نبي من أنبياء الله قد استفاضت الأدلة القطعية على صدق نبوته؟؟ وهل يقوم لدليل كهذا أي معارضة من مثل ما يزعمون؟؟ كلا ولا شك، وإنما هو الجحود والمكابرة المحضة! نقول لهم إن دلالة الاستقراء الناقص تورث العلم وتوجب العمل، لا خلاف في هذا، ولكن أين زعمكم بأنكم تنتظرون ظهور أول بجعة سوداء لتبطلوا مذهبكم الاستقرائي السابق بأن سائر البجع في العالم لونه أبيض؟
إنهم بذلك يخالفون أصلا من أصول العلم الطبيعي، ألا وهو مبدأ الشك Skepticism! إنهم يقولون إن ما معنا من نظريات وظنيات لا يحقق لنا الجزم والقطع، ومع هذا فإنه يلزمنا العمل به حتى يظهر لنا ما يخالفه من الأدلة والقرائن. وهذا الشك عندهم في الحقيقة ليس مفهومه بمعنى الشك المفضي إلى العجز عن الترجيح والتحقيق (الجهل)، وإنما بمعنى الاستعداد لإبطال ما هم عليه من العلم بمجرد أن يظهر ما ينقضه من الأدلة العلمية التي تعلوه في الطبقة وقوة الدلالة. وهذا مقبول منهم ما داموا يعملونه على ما يليق به من النظريات والظنيات. لكن إذا ما جاءوا به يريدون إعماله – أي مبدأ الشك هذا – على أمور هي من ضروريات العقل وقطعياته عند العقلاء، رددناه عليهم وقلنا إن القطعيات لا يتطرق إليها الشك ولا يجوز ذلك! ولو فتح الباب لذلك لضاعت أصول العلوم جميعا ولما بقي للإنسان حجة في شيء مما يُستدل به أصلا! فإن قالوا إن تمسككم بتلك القطعيات إنما هو ضرب من ضروب الإيمان، قلنا نعم هو كذلك، فكان ماذا؟ لا يضيرنا إيماننا ما دام يقوم على قطعيات لا مجال للتشكيك فيها! بل إنه وأيم الله عين المنقبة لصاحبه إذ يوطن قلبه ويعقد نفسه على قطعيات لا يتطرق إليها احتمال النقض (عقلا) ولا غنية له عن التسليم بها والعمل بمقتضاها، فهو يحسن التفريق بين ما هو قطعي يقيني وما هو ظني، يقدر الظن بقدره الصحيح، فلا يتشكك ولا يتوقف في مقام يجب فيه القطع واليقين، ولا يجزم ويصر على يقين قد ظهر له من الدليل ما يبطله، فتراه يدري كيف يقدر الخلاف بين الناس بقدره الصحيح، ويرتب العمل بما معه من معطيات العلم على أساس عقلي متين، يقيم حياته كلها على إرجاع المتشابهات إلى المحكمات، فلا تسيح نفسه في أودية الأوهام ولا تتردى في غيابات الشك والاضطراب! لقد علمنا معاشر المؤمنين أنه لا يرقى ظن محتمل مهما ظهر لصاحبه، لإبطال قطع لا يتطرق إليه احتمال! وإنما يذم المتشكك في مثل هذا، بالعقل والنقل والعرف وسائر ما تقوم عليه معارف البشر!! ويذم كذلك من الإيمان ما يكون قائما على دلالة يغلب الظن – فضلا عن أن يقطع العقل الصحيح – ببطلانها، فكيف بما قام القطع العقلي على فساده (كأصول سائر الملل المخالفة لهذه الملة الحنيفية)؟
¥