على نفس تلك الخطى الظلماء يمشي دراونة العصر ممن يؤسسون فلسفتهم الإلحادية على نظرية داروين في علم الأحياء. يقول قائلهم – في سفاهة هو يدري في دفينة نفسه قبل غيره من الخلق أنها الباطل بعينه – كيف يمكننا ترجيح نظرية الخلق على نظرية الارتقاء، وقد اجتمعت آلاف الأدلة على موافقة نظرية الارتقاء، ولم يقم دليل واحد على صحة فكرة الخلق؟؟ هذا سؤال فيه من المغالطات العقلية ما تكفي حكايته لفضحه! فإن هذا المكابر الجاحد، يدري أنه يتكلم بالباطل حين يصف الخلق بأنه نظرية!! الخلق حقيقة عقلية معدودة من ضرورات العقل التي لو فرط عاقل فيها لما ملك أن يثبت وجود نفسه أصلا! إنها حقيقة لا يطالب بالتدليل عليها إلا سفساط من سفاسطة ما بعد الحداثة، ممن بلغ بهم جهلهم الفصل بين الألفاظ ومعانيها، والتشكيك في حقيقة الواقع نفسه وهدم مفهوم الحق نفسه عند كل عاقل!! فأي قرائن هذه التي وقف عليها هؤلاء يمكن أن ترقى في قوة الاحتمال عند أي عاقل، مهما تراكمت ومهما عضد بعضها البعض، لإبطال ضرورة من ضروريات العقل المجرد بأي تأويل نظري يزعمون أن تلك القرائن المشاهدة تخدمه؟ هل يعقل أن يحاول أحد من الناس أن يجمع الأدلة والقرائن والمشاهدات التي تدل على أن وجوده هو نفسه ليس إلا وهما يتوهمه، أو على أن الواقع المشاهد المحسوس لا يمكن الوثوق به؟ هل يعقل أن يعمل أحد الباحثين على جمع القرائن للتدليل على أن الشيء الواحد يمكن أن يوجد في مكانين متباعدين في نفس الوقت (1=2)، أو على أن الكون لا حد ولا نهاية له، أو على أنه لا تعليل لتكونه بعلة أولى ينتهي عندها تسلسل العلل؟ قطعا إن شيئا من هذا لا يقبله العقل، ومع هذا، فقد ذهب إلى أمثال هذه المغالطات العقلية الواضحة أقوام وجهدوا جهدهم في إثباتها، وصاروا يحمدون ويعظمون في بلادهم على أنهم فلاسفة وعلماء مجددون!
ومن هذا الباب من أبواب المغالطة العقلية الفجة أن يقال إن نظرية داروين تفوق في قوة دلالتها (نظرية الخلق)!!
تصور الآن رجلا محققا من محققي المباحث الجنائية، يجمع القرائن الظنية في مسرح الجريمة ثم يقوم ببناء نظريته بالنظر في المشتبهين ودوافعهم وعلاقاتهم وما إلى ذلك، فيظهر له اتهام رجل بعينه، فيعيد تفسير المشاهدات التي يراها من آثار الجريمة بما يعضد نظريته تلك، ثم هو يأتيه - هذا المحقق – رجل آخر غير الذي رجح اتهامه، يشهد على نفسه بأنه هو الفاعل ويعترف بجريمته، أو يأتيه شهود عدول لا يُعرف عنهم الكذب فيشهدون على رجل آخر بأنه هو الفاعل، ومع ذلك تراه يصر هذا الباحث على إلصاق التهمة بمن بنى نظريته على نسبة التهمة إليه، ضاربا عُرض الحائط باعتراف الجاني أو بالدلائل القطعية التي اتفق العقلاء على حسم مبحث كهذا بها، فما قولك في محقق كهذا؟؟!!
إما أنه أحمق مجنون أو صاحب هوى، لديه مطمع وغاية في نفسه من اتهام أحد الرجلين دون الآخر! ليس لحالته تفسير ثالث! فإنه لا يعرض عن الحق الواضح من بعد ما تبين له بالحجة الظاهرة، إلا مجنون أو مكابر!
وفرع على ذلك، تلك المغالطة الفجة التي يلوكها الملاحدة عندما يُدخلون حدث الخلق الأول في جملة ما يوزن بميزان (الاحتمالية الإحصائية) Probability ليوازنوه بعد ذلك باحتمالية نشأة الحياة على الأرض على سلسلة من الصدف المتراكمة كما يدعون! فحتى لو سلمنا لهم على سبيل التنزل بأن حدث الخلق الأول ليس من ضروريات العقل المحضة، وقلنا كما يقولون (مكابرة منهم وجحودا) إنه مجرد ممكن من الممكنات، فإنهم يعترفون بأنه ليس حدثا من جنس ما نشهد من الحوادث في هذا الكون، أو من جنس ما يمكننا عقلا أن نشهده يوما ما، وهم يصفون نشأة الكون – في عدة سياقات علمية طبيعية كعلم الكونيات cosmology - بالحدث الفردي Singularity! فبأي عقل يضعون هذا الحدث الفردي – الخارج بحقيقته المجردة بضرورة العقل عن أي قياس - على ميزان الاحتمالية الإحصائية الذي لا يستعمل إلا في قياس فرصة تكرار نمط من أنماط الحوادث القياسية عند تكرار الظروف المشابهة التي يحتف بها وقوع ذلك الحدث في العادة؟ كيف يقال إن هذا الحدث تقدر احتمالية حدوثه بكذا وكذا؟؟ تالله إنهم قوم لا يعقلون!
والمضحك في الأمر أنهم الآن يتهمون الخلقيين – الذين استدرجوهم من قبل إلى هذا الفخ الفلسفي نفسه حتى صاروا يحاججونهم في حقيقة الخلق باستعمال نظرية الاحتمالات!! – بأنهم لا يفهمون نظرية الاحتمالات ويسيئون تطبيقها عندما ينتصرون بها للخلق!! ولذا فإنني لا أرتضي لأحد من المسلمين أن أراه يجادل ملحدا باستعمال الرياضيات والدلالات الإحصائية، ولا أن أراه يجادل لإثبات الحق الذي عنده بالحفريات والمكتشفات الجينية، فإن هذا المسلك المعيب قد استدرج الملاحدة إليه أهلَ الكتاب من قبل، حتى صار الخلق نظرية من نظريات العلم الطبيعي يرام إثباتها بالاحتمالية الإحصائية!! إن الملاحدة وحدهم هم المستفيدون من هذا المسلك ولا شك، وكفى به نصرا لهؤلاء الجحدة المجرمين أن يظهروا أمر الخلق على أنه مسألة ظنية يليق بها أن توضع في الميزان مع نظرية داروين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ما أسهل إطلاق كلمة (دليل) على شيء بين يدي الواحد من هؤلاء ينتصر به لملته، فإذا ما حوقق في ذلك تبين لكل ذي عينين أنه يكابر، وأنه يدري أنه لو صح اعتبار ما يحتج به دليلا، فإنه لا قيام له بإزاء ما يقابله مما عند خصومه!
..............
¥