ليس البحث العلمي في مجالات العلم الطبيعي – أيا كان نوعها وموضوعها – حجة على ما سواه من صنوف الأدلة العلمية لمجرد حقيقة أنه بحث إمبريقي أو أنه مبني على حس ومشاهدة! والذاهبون إلى هذا الزعم من رؤوس الإلحاد المعاصر، هم من السذاجة والجهالة بما يغني عن تكلف الرد عليهم! فإنهم يعلمون أن البحث الإمبريقي لا يأتينا بمشاهدة حسية مباشرة للشيء المراد إثباته إلا في القليل النادر، وغالب ما يجري في معامل البحث الإمبريقي إنما يخضع لطبقات من التأويل النظري والترجيح بين النتائج والمشاهدات والتأويلات النظرية والتحليلات الإحصائية والقياسات والاستنباطات الرياضية، لا يخلو أساسها جميعا من أصول عقلية فلسفية يُرتكن إليها – لزوما – للموازنة والترجيح بغية الخروج بالنتائج والدلائل من تلك الأبحاث والتجارب المعملية. هذه الأصول العقلية نفسها كما تقضي بأن الدليل الظني يتقوى باجتماع مثله إليه من الدلائل والقرائن الظنية لدعم هذه النظرية أو تلك من نظريات التأويل الفزيقي أو البيولوجي أو الجيولوجي أو الأركيولوجي أو غيره، فإنها تشهد هي نفسها – ولا بد – بأن هذه الأدلة الظنية تتفاوت في قوة دلالتها، وأن من الدلائل الظنية ما قد يفوق في قوته تلك الدلائل مجتمعة وإن كثرت، ويرجح حملها على وجه آخر من وجوه التأويل السائغ، فحتى وإن كان ذلك التأويل الآخر أقل احتمالية في تفسير تلك القرائن المتراكمة من ظاهر التفسير الأول، إلا أنه ممكن غير ممتنع، فبالنظر إلى أن العقل المجرد يمنع تعطيل الدليل الظني الأقوى فضلا عن الدليل القطعي، لترجيح هذا التفسير الظني لتلك القرائن، فإنه يتحتم نبذ التفسير الأقوى احتمالا والمصير إلى ما دونه، بغض النظر عن الحقل العلمي أو المعرفي الذي يأتي منه ذلك الدليل، لقوة الدليل المقابل! فالمعيار في ذلك إنما هو قوة الدليل نفسه من حيث إفادته اليقين أو الظن على تفاوت درجاته ومنازله!
والمغالطة الفادحة عند الفلاسفة الماديين إنما هي تقديمهم لدلالة التجريب والمشاهدة الحسية – بهذا الإطلاق – على دلالة العقل والخبر الموثق الصحيح، ونفيهم لدلالة هذا الأخير على ما وراء المحسوسات والمشاهدات، وما ذاك إلا من اتباعهم أهواءهم كغيرهم من أهل الأهواء! وإلا فإنهم يشهدون على أنفسهم بأن كثيرا مما كان بالأمس من المغيبات هو اليوم من المحسوسات، وبأن المشاهدة الحسية لا تقوم بنفسها – أصلا - في الاستدلال العلمي في أي حقل من حقول المعرفة التجريبية والعلم الطبيعي، وإنما تُجرى عليها – ولابد – جملة من الإجراءات العقلية من قياس واستقراء وترجيح بتأويلات واستدلالات من ظن تتفاوت مراتبه بما يجعلها عرضة للنقض بما يعلوها من الأدلة المفيدة للقطع أو الظن القوي متى ظهرت تلك الأدلة! وهم يعلمون علم اليقين أن مجرد القول بتنحية طرائق الاستدلال الفلسفي عن العلم الطبيعي يعني هدمه وإبطاله من أصله! هم يعلمون تمام العلم بأن الرياضيات نفسها لا تستمد دلالتها إلا من القرار على أصول عقلية ضرورية لا تقبل النقاش والنزاع بين العقلاء، تفرعت عليها تلك الوسائل والطرائق القياسية العقلية التي نعرفها اليوم بعلم الرياضيات! ففي أي شيء يماري هؤلاء السفهاء، عندما يقول قائلهم إن العلم (ويقصد به العلم الإمبريقي الطبيعي) يبطل ما يزعمه المسلمون من خبر الغيب؟ على أي قاعدة من قواعد الاستدلال أجريت بحثك هذا يا مسكين وأين أنت من موازنات العقلاء من أصحاب أصول العلوم والفلسفات لمراتب الأدلة، وترجيهم القطع على الظن؟ وما ظنك بأتباع الأنبياء والمرسلين؟ أتحسبهم يغترون بدعواك التي تدري أنت قبل غيرك بطلانها وما يلزم منها من هدم وإتلاف لهذا العلم نفسه الذي تحسب أن فيه حجة لك فيما اتخذته لنفسك دينا؟؟
¥