وفي مثالنا سالف الذكر (قصة مملكة سليمان عليه السلام) مثلنا على تقديم خبر الواحد الثقة على التفسيرات المحتملة للقرائن الحسية، فكيف إذا كان الخبر متواترا باتصال تام إلى نبي قد دلت الدلائل القطعية على صحة نبوته، وهو ينقله عن الرب الخالق جل وعلا – كما هو حال تلك القصة عندنا في القرءان – أفيبقى لأمثال هذه الأحفوريات وما في طبقتها من القرائن، أي قيمة أو وزن عند الاستدلال أصلا؟ هذا لا يقول به إلا من كان مغموصا على قلبه في الهوى أو الجهل! فالآن إن كنا نريد أن نعرف هل وقعت تلك القصة في الحقيقة أم لم تقع، فعلينا أن نجمع سائر ما فيها من أدلة، فهل يرتفع من تلك "الأدلة الأركيولوجية" شيء فوق خبر أثبتنا له التواتر المطلق عن الرب الخالق جل وعلا؟؟ لا قيمة لشيء من ذلك في مقابلة خبر كهذا، ونحن نتحداهم أن يأتونا بقرينة حسية قطعية تبطله، ودونهم في ذلك من اليوم إلى قيام الساعة!!
إن عدم علمي بالشيء وعدم وقوفي عليه بالحس والمشاهدة لا يعني عدم وقوعه أو وجوده، ولا يجيز لي رده إن جاءني به خبر صادق! فإن قال قائل إن في بطن المحيط سمكة كبيرة طولها كذا وصفتها كذا، وكان في الخبر ما فيه من الغرابة، فإن كان هذا القائل من المصدوقين الموثوقين عندنا، فإننا يلزمنا أن نسأله من أين جئت بهذا؟ هل رأيته بنفسك أم أخبرك به غيرك؟ فإن كان قد رآه بنفسه ويقول إنني رأيته بعيني فهل نكذبه؟ نقول إن كان في دعواه ما يعارض قطعيات العقل وقطعيات الحس (ما ثبت بالمشاهدة بالطقع الذي لا يتطرق إليه الشك)، أبطلنا كلامه ونسبناه إلى الاختلاط والوهم، وإلا فمجرد غرابة الخبر لا يلزم منها بطلانه! وأما إن كان قد أخبره به غيره، فمن؟ ينبغي أن نعرف! فإن كان ممن يوثقه هو ويثق فيه فإن هذا قد يكفي في علوم التاريخ غالبا، ولكنه لا يكفينا عندما يكون ذلك الخبر المنقول من الدين، حتى نقف على عينه ونعرف من هو، فبما أن الأصل فيمن وثقه من أثق فيه أنه ثقة وإن لم أعرفه، إلا أنه قد يجهل هذا الذي أوثقه أن من نقل إليه ذلك الخبر فيه مطعن ما عند من كان أعرَف بحاله منه وأدرى به، ولهذا كان في علم الجرح والتعديل في علوم الحديث أن المثبت للجرح مقدم على النافي عادة لأن لديه زيادة علم (وهذا بطبيعة الحال ما لم تنهض أدلة أو قرائن أخرى تمنع من إعمال هذه القاعدة على هذه الحالة أو تلك). ولهذا لم يكتف أئمة الحديث في هذه الأمة بقول الراوي إنني أروي عمن أثق فيه، فإن كنت أنا ثقة عندكم فشيخي كذلك ثقة ولابد! وإنما استفاضوا في دراسة سير وتراجم الرجال، وتخصصوا في تدوين ما نقل عنهم من حال ومآل، وتفحصوا في انتقال الروايات بين الرواة وأحوال ذلك الانتقال، حتى كان الراوي يُترك حديثه لجراحات في المروءة لو أجريناها الآن على الناس لما قبلنا من أحد من الخلق خبره ولا شهادته، وكان في تحقيقهم من صنوف علل الأسانيد ما لو طبق على أي رواية مما يعظمه أهل الملل الأخرى في كتبهم لجعلها هباء منثورا!
فالشاهد أن لنقل الأخبار والمرويات عند المسلمين علم محكم متين، يشترك مع علوم التاريخ وأصول التوثيق التاريخي في قواعده العقلية العامة، ولكنه يفوقها بما اختصت به تلك الأمة من تدوين أسانيد الرجال (رواية الراوي عن الراوي وصولا إلى أصل الخبر)، ومن تمحيص في أحوال أولئك الرجال لم تر البشرية مثله! ولهذا نقول - وبكل حزم وثقة - إنه ما من نقل أو أثر يأتينا مسندا بسند صحيح إلا وهو حجة في نفسه لا يرقى لإبطالها شيء من أخبار المؤرخين أو من تأويلات ونظريات تفسيرية للقرائن الأركيولوجية أو ما في طبقتها من الأدلة! فليس كل من جاءنا ببحث (علمي) يقول لنا إنه يتعارض مع حديث من روايات السنة عندكم، رجعنا من فورنا على ذلك الحديث بالنظر في درجة ثبوته وفي كلام أئمة الحديث فيه وكذا، ونحن نرجو في هزيمة وخذلان أن يكون ضعيفا أو مختلفا في صحته حتى لا نعارض به ذلك البحث المزعوم! إنما نبدأ أولا بالنظر في المنهجية الفلسفية التي قام عليها ذلك البحث (العلمي) وننظر في قوة ومنهجية الاستدلال فيه، فما أكثر ما ينشر من أبحاث في الأوساط الأكاديمية وهو في الحقيقة لا يرقى ولا يستحق عناء النظر أصلا!
¥