ومن أمثلة تلك المغالطة، قول بعض الباحثين التاريخيين إن قصة مملكة نبي الله سليمان عليه السلام التي قامت عند منطقة البحر الميت، لا يدعمها أي دليل من الدلائل الأحفورية الأركيولوجية التي تم العثور عليها في المنطقة. بمعنى أنهم لا يرون دليلا واحدا من الأدلة الحفرية يوافق – أو يخالف - ما جاء من خبر تلك المملكة العظيمة في كتبهم. هذه الحقيقة يستعملها بعض الملاحدة للتدليل على بطلان هذه القصة رأسا، ونفي وقوعها في تاريخ المنطقة! فهل يصح منهم هذا الاستدلال؟ الجواب لا! إذ كيف يعتبر عدم العثور على الشيء المفقود دليلا على عدم وجوده أصلا؟؟ إن الخبر المنقول بشأن تلك القصة إن كان من ثقة ضابط عن ثقة ضابط، ولو كان النقل من واحد عن واحد مثله إلى نبي ثابت النبوة من الرب الشهيد جل وعلا، فإننا يلزمنا أن نصدقه، فإن العقل يلزم منه ألا يكون أحد أعلم ولا أصدق من الخالق نفسه عندما يخبرنا بأنه قد قامت في هذا المكان فيما مضى مملكة لنبي من أنبيائه وصفها كذا وكذا! ولا نقابله بقول كهذا: إننا لم نجد فيما أجريناه من أعمال الحفر والتنقيب أثرا واحدا لتلك المملكة، وإذن فأنت أيها الناقل لهذا الخبر كاذب وهذه المملكة لم توجد في التاريخ أصلا! هذا باطل، لأننا لو طردناه لقلنا لكل ناقل خبر نعرف عنه صدقه وأمانته وضبطه: إن لم توقفنا من القرائن المادية على ما يصدق كلامك فأنت عندنا كاذب! وإذن لرددنا أخبار الصادقين الثقات لشرط لا يقول به العقلاء، ولما جاز لنا أن نقبل شهادة الشهداء في المحاكم، ولانهدم شطر التاريخ والأثر والسير، ولفسدت على الإنسان حياته كلها كما لا يخفى!!
وبغض النظر عن تحقق هذا الشرط من عدمه (نقل الثقة الضابط عن مثله إلى منتهاه عن نبي ثابت النبوة من رب العالمين) في أخبار أهل الكتاب وما في كتبهم من قصص وروايات، وبغض النظر عن حقيقة عجزهم – اليوم - عن إثبات نبوة أنبيائهم أصلا، فإن ثبوت هذا الشرط في الخبر – من حيث المبدإ العقلي – يرفعه من جهة قوة الدلالة في حقيقة ذلك الأمر الماضي فوق أي جملة من القرائن التي يمكن أن تفسر على وجه دون وجه، إلا ما كان من القرائن التي تدل دلالة قطعية على استحالة وقوع الأمر على هذا النحو المروي، ولا احتمال لتفسيرها على غير ذلك، وهذا لم يقع قطّ فيما أجمع المسلمون على صحته من النصوص، ونحن نتحدى من يخالفوننا بإثبات وقوعه!
فإن قيل إن العدل الصادق قد يكذب في نقل خبر من الأخبار، قلنا هذا احتمال ضعيف للغاية، لأنه معروف بالصدق وهو الأصل المستصحب فيه. وإن قيل قد يخطئ وقد يسهو، قلنا هذا ضعيف أيضا لأنه معروف بالضبط وقوة الذاكرة! بينما في المقابل قد نرى لدى صاحبنا المخالف قرائن حفرية وأثرية فزيقية تحتمل التفسير على أكثر من وجه، والوجه الذي يراه أقواها هو ما يخالف ذلك الخبر المنقول على نحو ما ذكرنا! فكيف يرجح صاحبنا بين المتعارضين هنا (وقد بدا واضحا أنه لا إمكان للجمع بينهما)؟ هل يدفع الخبر ويقدم عليه "نظريته" في تفسير القرائن الأخرى؟ لا يصح له ذلك في أكثر الأحوال، مع أن كلا الدليلين ظني كما ذكرنا! لأن قوة احتمال صحة الخبر تفوق في العادة قوة احتمال صحة هذا التفسير الذي افترضه الناظر لمجموع تلك القرائن، وتدفعه إلى اختيار التفسير الأوفق لما جاءه من خبر الثقة الضابط. فكيف إذا كان الخبر المنقول متواترا، بمعنى أنه قد نقله إلينا الكافة عن الكافة، والكافة: جمع كبير لا يتصور أصلا أن يتواطأ على الكذب؟ فهنا نقول إن الخبر المنقول قطعي الدلالة لأن بطلانه أصبح معدودا من الممتنعات العقلية! بخلاف الخبر الظني الذي انفرد به الواحد أو الاثنان، الذي لا ينفك عن احتمال ضئيل لوقوع الوهم أو الخطأ.
¥