ـ[أبو الفداء]ــــــــ[27 - Nov-2010, صباحاً 02:05]ـ

تابع ...........

إن الدليل القطعي لا يُنتقض بالدلائل الظنية مهما تراكمت، ولو وقف صاحبها على رأسه وهذا مطرد في سائر صناعات العلم البشرية!

والمعنى الذي ينبغي بيانه في هذا المقام أن اليقين منازل ودرجات، فليس مقصورا حصوله في نفس الإنسان على صنف بعينه من

الأدلة، فلا يقال إنه ما لم يكن الدليل قطعيا فإنه لا يحصل منه اليقين! فإن الأدلة الظنية على مراتب، وقد يوصف اجتماع جملة كبيرة من الأدلة الظنية بأنه ظن قوي إلى حد يقترب من القطع (والقطع يورث يقينا لا يتطرق إليه شيء من الارتياب، فقد يقال إن المعنى القطعي هو ما لا يتطرق إليه – عقلا – أدنى احتمال لظهور دليل ينقضه)! وفي لسان العرب: "اليَقِينُ: العِلْم وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وتحقيقُ الأَمر". فبمجرد المعنى اللغوي يقال إنه إذا ما انزاح الشك والارتياب من نفس الإنسان فقد تحقق لديه درجة من درجات اليقين، ولم يسعه البقاء على ما كان فيه من الارتياب أو الشك قبل حدوث العلم لديه. وفي الحقيقة فإن العلم (الموجب للعمل عند كل عاقل) قد يتحقق في بعض الأحيان بدليل واحد ظني، وإن كان ضعيفا، لغياب ما يمكن أن يبطله أو ينقضه في موازين الأدلة! فما حجة من وقف على دليل ظني لا يجد ما يبطله، إن لم يعمل بمقتضى ذلك الدليل؟؟ هذا لا حجة له! فلا يلزم أن يكون الدليل قطعيا يقينيا حتى ينبني عليه العمل.

ولا عبرة بخلاف من خالف فيما إذا كان الدليل الظني يفيد العلم أو لا يفيده، فإنه لا يرتاب العقلاء في أن الدليل الظني يفيد العلم، ما لم يوجد دليل مخالف من طبقته أو فوقها يُبطل الاستدلال به في المسألة المنظورة، أو يغير مسار الدلالة منه. فالواقف على دليل ظني يلزمه أن يعمل به وأن يقول بمدلوله وجوبا عند العقلاء. وهذا مطرد في سائر علوم البشر، الشرعي منها والدنيوي على السواء.

ولهذا نقول إن النظرية العلمية في علوم الطبيعيات تفيد العلم وتوجب العمل حتى وإن كانت أدلتها ظنية عند أدنى مراتب الظن، وفي كثير من الأحيان لا تزيد النظرية على كونها مجرد فرضية تفسيرية يضعها الباحثون لبعض الظواهر ثم يرتكنون إليها لكونها لا ينهض شيء من الأدلة بين أيديهم لإبطالها، بل أدنى من ذلك، تراهم يقبلونها ويعملون بها لكونها لا يظهر من التفسيرات والتأويلات ما يَفضُلها أو يقوم مقامها في توجيه ما اجتمع لهم من القرائن، وهذا كما لا يخفى من أدنى مراتب الاستدلال الظني إن لم يكن هو أدناها. ولذا فإن أمثال تلك النظريات إذا ما ظهر لهم ما يقوى على إبطالها تركوها وقالوا بخلافها، وإذا ما ظهر لهم ما يقويها زاد قبولهم لها، وكلما زاد ذلك، زادت قوة الدليل الظني المطلوب الوقوف عليه لنقضها. ولهذا أيضا نقول إن مرويات التاريخ تفيد العلم حتى وإن كانت ضعيفة – أي تتخلف عن شروط قبول الرواية في علم الحديث – ما لم ينهض من الدلالة ما يفيد بطلانها (كاتهام بعض المؤرخين أو كوقوع الاختلاف بينهم ورجحان القول المخالف لقرائن تقويه، وغير ذلك من مرجحات أصحاب التواريخ). فلا نشترط التواتر حتى نقبل الخبر التاريخي، ولو اشترطناه لأسقطنا من العلم بأخبار السالفين تسعة أعشار ما لدينا! كما لا نشترط الدليل الحسي القطعي حتى نقبل النظرية العلمية، ولو اشترطناه في ذلك لما تطببنا ولا تداوينا!! بل نحن نقبل الدليل الظني ونعمل بمقتضى دلالته كما هو المتبع في سائر العلوم، مع اشتراط عدم المعارض المعتبر الذي يوجب إسقاطه.

ولذلك فإننا نقول إنه كما تعتبر المشاهدة الحسية المباشرة أقوى أدلة العلم الطبيعي على الإطلاق، وهي تفيد القطع واليقين في ذلك، فكذلك يقال في الخبر المتواتر باتصال، في علوم التاريخ والأثر. فالدليل الظني من أي علم من العلوم لا يرقى لنقض الدليل القطعي في أي علم آخر. فلا يمكن قبول نظرية تفسيرية في الفيزياء – على سبيل المثال – تناقض دليلا ظنيا أقوى منها في علم التاريخ، فكيف بما هو معلوم خبره بالتواتر المستفيض؟ وكيفما كان الدليل الذي يقف عليه الإنسان في أي صنعة من صناعات العلوم فإنه مورث للعلم ما لم ينقضه ما هو أقوى منه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015