النزاع من أصله، وألا يستدرجوا إلى كل هذا التراشق بالظنيات الواهية التي خاضوا فيها مع خصومهم خوضا كبيرا!

وفي الحقيقة فقد تفطن قليل من عقلائهم من المعاصرين إلى أن ساحة النزال الحقيقية فيما بين الفريقين إنما هي في فلسفة الاستدلال العقلي نفسه وليس في دائرة الأحياء أو الجيولوجيا أو غيرها من الدوائر المعرفية الضيقة! ولكن الشأن أن هؤلاء إن اتُفق لهم أن وُفقوا في إبطال دعاوى الإلحاد بالحجج العقلية، فإنهم بطبيعة الحال لا تقوم لهم قائمة في إثبات صحة ملتهم التي يدينون بها، وعندئذ تدور الدائرة عليهم!

في مناظرة علنية أقيمت في سنة 1998 ميلادية بعنوان (ما الأدلة على/ضد وجود الله)، بين عالم اللاهوت الفلسفي النصراني الأمريكي ويليام لين كريج، وعالم الكيمياء الانكليزي الملحد بيتر أتكينز (وهي منتشرة على مواقع الفيديو على الانترنت كموقع يوتيوب وغيره)، أراد أتكينز التدليل على بطلان وجود الخالق جل وعلا، فعمد إلى الجمع بين دليلين (في زعمه أنهما كذلك)، فقال (وما بين المعقوفين من تعليقي): "لو أننا جمعنا بين حقيقة أن سبب ظهور الإيمان عند الناس (وفقا للتفسير الدارويني) هو أنهم كانوا يحتاجون وبشدة إلى الإيمان بوجود إله، وحقيقة أننا الآن نعلم (وبسبب نظرية داروين أيضا!!) أننا لا نحتاج في الحقيقة إلى الاعتقاد في وجود إله، فإن هذا سيقيم لنا حجة – نوعا ما – ضد وجود الإله! " فيجيبه كريج قائلا: "إن هذا ضرب من ضروب المغالطة الواضحة حيث تزعم أن بمحاولة تفسير كيفية ظهور الإيمان وسببه عند الناس، يمكنك إثبات بطلان الإيمان نفسه"، فيقاطعه أتكينز ويقول: "ولكن هذا ليس إلا شطرا من الحجة! لست أقول إن هذا وحده كافيا، ولا بأن حقيقة كون العلم Science ( يعني العلم الطبيعي أو المادي عموما) قادرا على تفسير أي شيء وكل شيء وحدها كافية، ولكن إذا جمعنا بين المعنيين - أي حقيقة أن العلم تام القدرة (أي أنه قادر على تفسير كل شيء) وحقيقة أنني يمكنني أن أفهم لماذا يريد الناس من أمثالك (مخاطبا كريج) وباستماتة أن يتمسكوا بالإيمان بوجود الإله - فإنه تصبح لدينا حجة ظاهرة ضد وجوده! " فيجيبه كريج قائلا: "ولكن لو جمعنا دليلين باطلين إلى بعضهما البعض فإننا لا ننتهي بذلك إلى حجة مستقيمة! " وهنا يقاطعه أتكينز قائلا: "إذن فهل تنكر أن العلم يمكن أن يفسر كل شيء؟ " فيجيب كريج: "نعم أنكر هذا" فيقول أتكينز: "فأي شيء هذا الذي لا يمكن للعلم أن يفسره؟ " ويجيب كريج: "حسنا، بما أنك أثرت هذا الأمر فقد كان لدي عدد من الأمثلة أريد ضربها على ذلك، فإنني أعتقد أن هناك عدد كبير من الأمور التي لا يمكن إثباتها أو تفسيرها بالعلم الطبيعي ولكنها جميعها صحيحة ومقبولة عقلا، دعني أذكر منها خمسة أمور فقط، أولا: الحقائق المنطقية والرياضية لا يمكن إثباتها بالعلم الطبيعي، وإنما يقوم العلم الطبيعي عليها أصلا، ومن ثمّ فإن محاولة إثباتهما من خلال العلم الطبيعي لا تفضي إلا إلى الدور المنطقي! وثانيا: الحقائق الماورائية كحقيقة أن هناك عقولا أخرى بخلاف عقلي، أو أن العالم الخارجي حقيقي، أو أن الكون لم يظهر في الوجود قبل خمس دقائق فقط، هذه حقائق عقلية لا يمكن إثباتها بالعلم الطبيعي! وثالثا: العقائد الأخلاقية والقيمية ليست خاضعة للبحث من خلال طرائق العلم الطبيعي، فلا يمكنك أن تثبت من خلال العلم الطبيعي أن العلماء النازيين قد قاموا بشيء من أعمال الشر مقارنة بعلماء الديمقراطية الغربيين في زمانهم! ورابعا: الأحكام الجمالية لا يمكن التعامل معها من خلال أداة العلم الطبيعي، لأن الشيء الجميل والشيء الحسن لا يمكن إثبات تلك الصفة فيهما بطرائق العلم الطبيعي. وخامسا وأخيرا، وهو الأهم عندي، العلم الطبيعي نفسه، فإن العلم الطبيعي لا يمكن إثبات جدواه وتبرير وجوده من خلال العلم الطبيعي ... ! "

وأقول إن جواب كريج جواب جيد لذلك المكابر الجهول كما هو واضح، لا يملك له ردا، وقد أحرجه في تلك المناظرة وأسكته في غير موضع! والحقيقة أنه كان يغنيه عن ذلك كله أن يثبت للملحد وقوع الدور المنطقي في حجته الواهية تلك – فضلا عن المكابرة الواضحة لمضادة ضرورة العقل وقطعيته بمثل هذه الأوهام الداروينية – حيث يشيد حجته كلها على نظرية يفترض أنه في مقام الاستدلال العقلي لها لا بها، إذ هي تحتاج إلى دليل قطعي تام يرفعها لمنزلة مقابلة الضرورة العقلية لوجود الخالق! وعلى أي حال فقد أحسن كريج الجواب كما أسلفنا، ولكن المشكلة تأتي والتناقض يظهر عندما يقال لكريج نفسه: إن كنتَ أيها العاقل على هذا القدر من الإلمام بطرائق الاستدلال العقلي الفلسفي، والإقرار بوجوب احترام ضروريات العقل عند المحاججة الفلسفية وبطلان تقديم الظنون – فضلا عن الأوهام والخرافات - عليها، فبأي حجة من حجج العقل إذن تمسكتَ بخرافة الثالوث – على سبيل المثال – وجئت تدعونا إلى الإيمان بها على ما تضج به من الفساد والبطلان العقلي اللغوي والرياضي المحض؟؟ إن كنت تريد الحق حقا، فكيف لا تجمع – لنفسك في دينك – بين الإيمان بالضرورة العقلية لوجود الخالق (الذي تنافح عنه الآن بحجة ظاهرة لا ناقض لها)، والبطلان الضروري الظاهر لقولهم (ثلاثة) والضرورة العقلية الدامغة لتنزه هذا الخالق – سبحانه - عن الولد وعن الصلب والفداء وغيره مما تقوم عليه تلك الملة التي ارتضيتها لنفسك؟؟ كيف ارتضيت لنفسك في إيمانك الجمع بين هذه المتناقضات؟

فالحاصل أنه هو كذلك من أتباع الهوى، تماما كخصمه الملحد، وإنما انحصر الفرق بينهما في أن أحدهما أقرب إلى الحق من صاحبه، ولله في قلوب عباده شؤون!!

................

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015