عليه طمعا في المنصب والمنزلة والوجاهة الاجتماعية.
ولهذا فإنك ترى النصارى إذا ما جادلوا الملاحدة في إثبات وجود الخالق، سرعان ما ينقلب سحر حججهم عليهم، وبعدما تسمع كلاما قويا دامغا في إبطال فلسفات الإلحاد، تنتشي له نفس كل عاقل معافى من داء الجحود والإلحاد، تراهم ينتصرون لملة ظاهرة الفساد، فيظهر عليهم خصومهم حينئذ ويدحضونهم دحضا! فماذا تراهم يصنعون والحالة هذه؟ لا يجدون إلا التكثر من الأدلة الظنية حتى وإن كانت من جنس ما يتكثر منه مخالفهم ليستجمعوا لأنفسهم ما يظهر أنه حجة لهم لا على وجود الخالق – فإن وجوده قطع عقلي لا ريب فيه – وإنما على صحة ملتهم بعينها وكتابهم بعينه! ولو كان دينهم يستقيم له أساس من البرهان القطعي الدامغ لما احتاجوا إلى تلك الألاعيب أصلا! تراهم يستجمعون الأدلة الأركيولوجية – على سبيل المثال - لإثبات وقوع القصص الإنجيلية والتوراتية ويسعون في ذلك سعيا حثيثا، لعلهم تقوم بين أيديهم لكتابهم حجة يرتضونها هم أولا قبل خصومهم! أفلو كانوا يستطيعون إثبات صحة النص المنقول إليهم بطرائق الاستدلال التاريخي المستقيم، بما يدفع أي شك أو احتمال في صحته وأصالته، أفكانوا يلجئهم الحجاج إلى أمثال تلك الطرائق؟ لو كانوا حقا على قناعة بما يزعمونه من كون نصوصهم منقولة إليهم بالتواتر المتصل من زمان نبي الملة نفسه، أفكنت تراهم يضطرون إلى سلوك تلك المسالك على نحو ما يصنعون؟
إن فاقد الدليل القطعي اليقيني – فضلا عمن علم بضرورة العقل بطلان ملته - لا يملك إلا التكثر من كل ما يمكنه جمعه من قرائن أو استدلالات ظنية تعضد موقفه، مهما كان تأويله لتلك القرائن بعيدا وواهيا! ولهذا السبب ظهر عندهم من الأصل ما يسمى بفلسفة اللاهوت، للتكثر من (الأدلة) الفلسفية التي يرجو علماؤهم أن يكون فيها إسكات للعوام وإظهار لما يرجى عند اجتماع بعضه إلى بعض أن يرقى لدفع الاعتراضات العقلية الدامغة على أصول ملتهم!! وهكذا كانوا ولا يزال دأبهم في كل عصر، كلما ظهر لهم ما تظهر فيه شبهة دليل على صحة ملتهم، أفاضوا فيه واعتنوا بإظهاره أشد العناية. وقد كانوا ولا يزالون يستحلون التلاعب بتأويلات نصوصهم إلى حد نسبة جملة كبيرة منها إلى المجاز بغية تحقيق تلك الغاية! لسان حالهم يقول: إن كان الغالب في زماننا فلسفة اليونان وعبدة الأوثان، فلنثبت أن نصوصنا وأصول ملتنا على وئام معها، وإن كان الغالب غير ذلك (وهو العلم الطبيعي في هذا الزمان) فلنطبعها بذاك الطابع! المهم أن يكون لدينا في كل زمان من (الأدلة) على صحة هذه الملة ما يناسبه ويبقي المؤسسة الكنسية فيه حيث ينبغي أن تكون عند الناس!
ولهذا السبب نفسه، اجترأ ملاحدة هذا الزمان – جحودا منهم واستكبارا على قبول القطع العقلي والنقلي الجلي الذي عندنا معاشر المسلمين من بعد ما تبين لهم – على الزعم بأن أهل الدين (بهذا الإطلاق) لا يملكون إلا أدلة ظنية تتنازعها أدلة ظنية مثلها أو أقوى منها، يرتكنون عليها لإثبات صحة عقائدهم وكتبهم، والفرق في زعمهم أن ظنياتهم قد صارت اليوم تقوم عند أهل العلوم المادية على التجريب والحس، بينما ظنيات مخالفيهم من أهل الملل تقوم على الأسطورة والخرافة التي لا يثبتها التاريخ نفسه، فهي مقدمة عليها بإطلاق! ولهذا تشعب النزاع بين النصارى والملاحدة على نحو ما نراه واقعا بين من يسمون بالخلقيين من النصارى ومن يسمون بالداروينيين من الملاحدة (وسائر ملاحدة العصر من هؤلاء). فقد استدرج الملاحدة هؤلاء المساكين إلى دائرة الدلالة الإمبريقية والحسية في أصل النزاع بينهما، حتى صار معنى الخلق نفسه مجرد نظرية من نظريات الأحياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! ومهما صاح الملاحدة في وجوههم بأنه لا يصح إدخال هذا المعنى في دائرة علم الأحياء – وصدقوا، ومثله ينسحب على كل ما يخوضونه هم في الانتصار لإلحادهم بأدلة العلم الطبيعي كذلك – تراهم لا يتنازلون عن ذلك المسلك. وما ذلك إلا لأنهم فاقدون كما أسلفنا لما يستندون إليه من قطعيات دامغة تثبت لهم صحة دينهم (الذي علموا بطلانه في أنفسهم)، وتقطع السبيل على المنازع الجاحد لاتخاذ بطلان الملة تكأة للوصول إلى التشكيك في وجود الخالق نفسه!! ولو أنهم وجدوا عندهم مثل ذلك الدليل القطعي، لاقتضى العقل منهم أن يحسموا به
¥