إنه الهوى، لا معبود لهم بحق سواه! وإلا فهل يستقيم – بالعقل المجرد - نصب الدلالة انتصارا لأي من تلك المواقف بإزاء حقيقة الأقنوم وعلاقته بغيره من الأقانيم، والاشتغال بذلك والتنازع فيه، مع تغافل البطلان العقلي البين لمعنى الثالوث نفسه؟ كلا ولا شك، ولكنها الرسوم والتقاليد الكنسية، وحب السيادة والتسلط على الخلق بالمنصب الكهنوتي! يجب أن يكون هذا القدر من الدلالات والتأويلات المتفق عليه بين أتباع تلك النحلة هو الحق ولا حق سواه، ويجب أن يرام التفلسف بشتى ضروبه وصوره ووسائله، لإبطال كل دليل على خلاف ذلك أيا ما كان نوعه، وإن كان من قطعيات وضروريات العقول السوية، وقد ألفوا في ذلك – تماما كما صنع غيرهم - مئات المجلدات عبر القرون، يقولون على الله الكذب وهم يعلمون! أويحسبون أن الله يفلتهم؟

تراهم يختلفون في قضية سلطة الكنيسة التشريعية بين طائفة ترى أن الكنيسة تتحرك بتوجيه خفي من الروح القدس، فكل ما تشرعه من رسوم وتراتيب وشعائر وشرائع إنما هو من الرب، بما في ذلك اختيار النصوص القانونية للكتاب المقدس نفسه، الذي منه يستدل هؤلاء على أن الروح القدس هي التي تحركهم في ذلك كله (وتأمل الدور في الاستدلال)!! وفي المقابل طائفة أخرى تقول إن هذا الزعم إنما هو من تأويلات الكهنة الباطلة وأن الكتاب المقدس يخلو من تلك المناصب والرسوم الكنسية التي اخترعها هؤلاء وتوارثوها جيلا بعد جيل، وأنه بريء من وثنيات التقليد الكنسي وتقديس البشر ورفعهم إلى تلك المراتب التي يرفعونهم إليها وما إلى ذلك! فإذا ما نظرت إلى هذا النزاع لم يسعك إلا أن تتساءل، كيف غفل هؤلاء المتنازعون جميعا عن حقيقة أن ما يسمى بالكتاب المقدس – نفسه – الذي به يستدل كلا الفريقين، إنما قام بتقنين ما فيه من النصوص آباء الكنيسة القدماء بالأساس، تلك الكنيسة نفسها التي ينشق هؤلاء عنها، فإنهم هم الذين نظروا في النصوص وقالوا هذا كلام الله وهذا ليس بكلام الله، وفقا لاعتقاد كانوا قد أبرموا الاتفاق عليه مسبقا كما هو معلوم! فالشاهد أن تلك الطائفة المنشقة من المعترضين (البروتستنت) لو صدقوا في طلب الحق لشهدوا بأن كتابهم الذي بين أيديهم لا يصلح للاستدلال في تلك المسألة أصلا، لأنه من جمع وتقنين مخالفيهم، ولشهدوا – من باب الأولى، وللحجة الأظهر - ببطلان تلك الأسس الفلسفية التي تمسكوا بها في ملة النصرانية نفسها (كالتثليث والبنوة والخطيئة الأصلية والفداء وغيرها)، وبضرورة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في دينه، ولكنها الأهواء عند أولئك كما عند هؤلاء!

إنهم يعلمون جميعا أنهم ليسوا على شيء من اليقين، ولكنهم يكابرون! كيف "تستيقن" نفس مستقيمة سوية من ملة تقوم بأكملها على الاعتقاد في أن الواحد هو عينه الثلاثة، والثلاثة (هم/هو) الواحد، وفي أن الرب نزل في رحم امرأة ثم اختار أن يصلب نفسه حتى يغفر للناس خطيئة لم يشهدوها أصلا ولا يد لهم فيها؟؟ لا يمكن أن يقوم في قلوب أتباع تلك الملة يقين ولا قريب منه أصلا! وبعيدا عن الحيل النفسية والتخريجات الشيطانية لتبرير الذات التي يلبس بها كل منهم على نفسه ليقنعها بأنه على الحق، فإن الشاهد هنا أن اليقين لا يقوم عند من يعلمون أن عقيدتهم في الخالق وفي سائر أمر الغيب تقوم على أمثال تلك المعاني الفاسدة! ونقيض اليقين هو الشك، وهو علم الإنسان بأنه لا تستقر نفسه على دليل يرضاه في هذه المسألة أو تلك، أو بعبارة أقرب، هو إدراكه لأن ما معه من الأدلة لا يرقى لتحقيق العلم (أو ما يلزم تحقيقه من الثقة فيما ذهب إليه وقال به). والعبرة في ذلك بالوقوف على ما يكفي من الأدلة لسد باب الشك وتحقيق العلم الموجب للعمل، سواء كان الموقوف عليه دليلا واحدا أو عدة أدلة، وسواء كان الدليل قطعيا أو ظنيا. والنصارى في الحقيقة – وغيرهم من أصحاب الملل الباطلة والمحرفة – منهم من هو متشكك ولكنه يتحايل على ذلك الشك في نفسه بتخريجات تأويلية وأباطيل فلسفية شتى يسعى حثيثا لرفعها في نفسه – وهما وخداعا - إلى درجة ترقى بها لدفع ما هو ظاهر له من بطلان أصول تلك الملة التي هو عليها هو وأهله وجميع من يحبهم من حوله، ومنهم من هو عليم خبير ببطلان تلك الملة ووهاء سائر تلك التأويلات والأباطيل التي يتعلق بها العوام منهم، ولكنه يكابر ويصر على ما هو

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015